العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

هذه الزيارة التي بدأت بمكالمة من الرئيس مبارك، يبلغني فيها بزيارة الرئيس ساركوزي للأقصر، لقضاء عطلة الكريسماس. وكانت توجيهات الرئيس واضحة من حيث تقديم كافة التسهيلات والرعاية والتأمين التي تليق برئيس دولة فرنسا.

ساركوزي ... والأقصر

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

سبع سنوات قضيتها في الأقصر، محافظاً لها ... شهدت فيها أحداثاً كثيرة ... بعضها يعلق بالذاكرة، ويعود ليطفو من وقت لآخر ... ولعل من أكثرها زيارة الرئيس الفرنسي، آنذاك،  ساركوزي للأقصر في 2007. هذه الزيارة التي بدأت بمكالمة من الرئيس مبارك، يبلغني فيها بزيارة الرئيس ساركوزي للأقصر، لقضاء عطلة الكريسماس. وكانت توجيهات الرئيس واضحة من حيث تقديم كافة التسهيلات والرعاية والتأمين التي تليق برئيس دولة فرنسا، وتليق بعمق العلاقات المصرية معها، خاصة وأنها أول زيارة له لمصر. وبمجرد أن انتهت مكالمة الرئيس، بدأ الإعداد الفوري للزيارة. فبدأت أقرأ وأذاكر عن الرئيس ساركوزي ... شخصيته، أفكاره، هواياته ... وهي عادتي عندما استقبل أحد كبار الشخصيات. وزادت قراءاتي عن كارلا بروني، زوجته القادمة، خاصة أن هناك من أذاع خبر مرافقتها له في تلك الزيارة.

وفي صباح اليوم التالي، كان أمام مبنى المحافظة عدداً كبيراً من رجال الإعلام، والمراسليين الصحفيين، والكاميرات التليفزيونية، للتأكد من خبر مرافقة كارلا بروني للرئيس الفرنسي.

وجدير بالذكر أن فرنسا كان لها أكبر بعثة أثرية في العالم في الأقصر، وكانت البعثة مختصة بمعبد الكرنك ... أكبر آثار العالم ... وقد وصل عدد أعضاء تلك البعثة، في يوم من الأيام، إلى نحو 40 عضواً، يقيمون في عدد من المباني المطلة على نهر النيل، فيما يشبه مجمعاً سكنياً خاصاً بهم، إلا أنني قمت بإزالة كل تلك المباني، لأتيح الروية في ساحة الكرنك أمام معبد حتشبسوت في البر الغربي ... لأعيد وضعاً كان قائماً منذ أربعة آلاف عام. وقد كان لهذه الإزالة ردود أفعال كثيرة، وصلت إلى حد تقديم شكوى من فرنسا إلى اليونسكو، فجاءت لجنة من اليونسكو إلى الأقصر لبحث الأمر، وانتهت إلى تأييد قراري بالإزالة، وتم نقل ذلك المجمع السكني إلى أحد الأجناب، وعاد الكرنك بساحته إلى ما كان عليه منذ آلاف السنين.

وتوجهت إلى المطار لاستقبال الرئيس ساركوزي، وهناك سألت مندوب المراسم الفرنسي عما إذا كان الرئيس مصطحباً آخرين خلال تلك الزيارة الغير رسمية، إلا أن إجابته أوضحت أنه شخصياً ليس لديه خبر يقين. وهبطت الطائرة الصغيرة على أرض مطار الأقصر، ونزل منها الرئيس ساركوزي، وكنت في استقباله، ثم تقدمت الفتاة الصغيرة، مرتدية الزي الفرعوني ذو النقوش والألوان المبهجة، وقدمت الورود للضيف العزيز. وفجأة، ظهرت خلفه كارلا بروني، فتدارك الرئيس الموقف وقدم لها بوكيه الورد، ثم قدمها لي بالفرنسية قائلاً Ma Fame. ثم مشت على السجادة الحمراء، متوجهة إلى السيارة لتركب من ناحية اليمين، فوجهها مندوب المراسم الفرنسي إلى الناحية الأخرى من السيارة، وهو ما يعني أنها المرة الأولى التي تصاحبه فيها في سيارة الرئاسة.

وسألت الرئيس ساركوزي عن تفضيلاته في بدء برنامج الزيارة، فقال أنه يريد الذهاب إلى معبد الكرنك، وتحركنا على الفور، ونزلنا إلى ساحة المعبد من ناحية النيل، حيث كان في استقباله أعضاء البعثة الأثرية الفرنسية. وقبل أن يصافحهم، استعلم مني عن مقر إقامتهم السابق، الذي أزلته، وكذلك المقر الحالي. وقد كنت متوقعاً تماماً لهذا الحوار، ومستعداً له بالصور التي تجيب عن تساؤلاته ... ففوجئت به يعانقني ويهنئني على صواب القرار، مضيفاً أن الحفاظ على تاريخ مصر مسئولية وواجب على الجميع. ثم تقدم لمصافحة أعضاء البعثة الفرنسية، قائلاً لهم أن المحافظ قد فعل ما توجبه عليه مسئوليته لصالح الآثار المصرية، ووجودنا هنا لمساعدته على ذلك.

واستأذنت للعودة إلى مكتبي، وتركت الرئيس مع بعثته الفرنسية، يشرحون له الكرنك كأكبر أثر في العالم. والحقيقة أن الأقصر، في ذلك الوقت من العام، اعتادت أن تكون فنادقها كاملة العدد، ومن هنا كانت التعليمات واضحة للأمن، بألا تزعج هذه الزيارة الأفواج السياحية، خاصة قفل الطرق، أو إيقاف، أو تعطيل أي تحرك للسياح. ولقد وصلت نسبة الإشغال إلى أن الغرف الملكية في فندق الونتر بالاس العريق، كانت كلها محجوزة من قبل، وهو ما تطلب الكثير من الجهد لتوفير الأجنحة الملكية للضيف والمرافقين له.

ثم، في الخامسة مساء، جاءني خبر بأن الرئيس الفرنسي يريد ممارسة رياضة الجري، فبدأت البحث عن أنسب الفنادق القريبة، والمؤمنة لاقتراحها عليه. فإذا بالمكالمة التالية تفيد بأن الرئيس ساركوزي قد نزل بالفعل، مرتدياً الشورت والتيشرت، وبدأ الجري على كورنيش النيل في اتجاه معبد الكرنك، يصاحبه فرد أمن فرنسي، وضابط مصري من الحرس الجمهوري مخصص لحراسته. ومرت ثلاثون دقيقة، كانت من الأصعب في حياتي ... وقفت فيها في شرفة مكتبي متابعاً له يجري وسط الأهالي والسياح، يلوحون له ويرد التحية ... وقد كررها مرتين ذهاباً وإياباً ليكمل ثلاثون دقيقة من الجري.

وفي المساء، التقيته على العشاء، فقلت له، مداعباً، "عند عودتك إللى فرنسا، أرجوك أن ترسل لي أدوية لعلاج القلب، مقابل ما فعلته بي عندما قررت الجري على الكورنيش، دون إعداد مسبق للتأمين"، فرد، ضاحكاً، "أعلم تماماً شعورك في ذلك الوقت، إلا أن المفاجأة هي أكبر عناصر التأمين، إضافة إلى جمال شعب مصر، وترحيبه بي بابتسامة ساحرة، قد شجعاني على الجري دون قيد". واكتشفت طوال حديثنا على العشاء، بأنه قارئ جيد للتاريخ المصري، ويعلم الكثير عن الأقصر والتاريخ الفرعوني، وقال أن الفرنسيون يعشقون التاريخ المصري الفرعوني، مضيفاً أنه يعتقد أن أجمل هدية لزوجته كارلا، ستكون قضاء شهر العسل في الأقصر، والتمتع بنهر النيل الساحر.

ودعاني في اليوم التالي، لتناول الغذاء معهم، في فلوكة كبيرة في نهر النيل، مثل المركب التي ظهرت في فيلم عمر الشريف وهند رستم "صراع في النيل"، وقد اعتذرت عن تلبية الدعوة في آخر لحظة، نظراً لحجم الإعلام المترقب لهم، والذي يفوق تخيلات أي إنسان. وعندما ظهرت صورته ومعه كارلا، على ضفاف النيل، ومن خلفهم معابد الأقصر، على غلاف أكبر مجلة فرنسية Paris Match، قال لي البعض، أن هذه الصورة تساوي ما قيمته 50 مليون يورو دعاية للأقصر، والسياحة فيها.

وفي يوم المغادرة، وعلى سلم الطائرة، في مطار الأقصر، اصطفت فرقة موسيقى الأرغون الصعيدي لتوديع الضيوف، وبدلاً من أن تعزف الفرقة لمدة دقيقتين، كما هو مقرر لها، ظلت تعزف لمدة خمسة عشر دقيقة؛ فعلاوة على أن كارلا بروني عارضة أزياء، فهي أيضاً مغنية محترفة، ولقد انبهرت كثيراً بهم.

وعند عودتهم إلى فرنسا، وصلني خطاب شكر، كان نصه "لقد زرت بلاد العالم ... لكن الأقصر لها مذاقاً خاصاً ... فلن أنسى المعابد الفرعونية ... ولن أنسى الغذاء على المركب في النيل والأشرعة البيضاء ... ولن أنسى الرجل الأسمر، بأسنانه الذهبية، ممسكاً بالدفة، وهو يقول لي أشربي من مياه النيل لتعودي مرة أخرى لأرض الفراعنة ... وأخيراً فرقة المزمار الصعيدي ... إن بلادكم جميلة ... فافخروا بها" ... إمضاء ساركوزي وكارلا بروني.

أيها المصريين ... نحن نملك أغلى كنوز الدنيا ... لكننا لا نعرف كيف نحافظ عليها ... أو نستثمرها ... لك الله يا مصر!

Email: sfarag.media@outlook.com