العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

أتوقف، كل مرة، أمام الشعب الياباني، وأمام غرامه وشغفه بالحضارة المصرية القديمة، والتاريخ الفرعوني، وهو ما صنّف اليابان واحدة من ضمن أهم خمس دول في العالم، تحب، وتحترم التاريخ الفرعوني، وعندما يزور شعبها، الأقصر، فإنه يأتي لها حاملاً حضارته، وثقافته، وأسلوب حياته.

اليابانيون ... والأقصر

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

قضيت سبع سنوات،في الأقصر، محافظاً لها ... تابعت، خلالهم، العديد من الأحداث، والمفارقات ... وتقابلت مع العديد من الشخصيات ...وتفاعلت مع ثقافات مختلفة ... وأنماط متغيرة ... كانت تجربة فريدة، وغنية بكل ما تحمله الكلمات من معانٍ.

مازلت محتفظاً، في الذاكرة، بتفاصيل تلك التجربة، مستمتعاً باستعادتها، بين الحين والآخر، فأجدني أتوقف، كل مرة، أمام الشعب الياباني، وأمام غرامه وشغفه بالحضارة المصرية القديمة، والتاريخ الفرعوني، وهو ما صنّف اليابان واحدة من ضمن أهم خمس دول في العالم، تحب، وتحترم التاريخ الفرعوني، وعندما يزور شعبها، الأقصر، فإنه يأتي لها حاملاً حضارته، وثقافته، وأسلوب حياته.

ولكي يتضح المعنى أكثر، دعني أقول لك أن السؤال التقليدي، الذي يوجهه ليأي صديق يرغب في زيارة الأقصر، والاستمتاع برحلة نيلية بينها وبين أسوان، يكون "ما هو أنسب الفنادق العائمة للقيام بتلك الرحلة؟". فتكون إجابتي، في كل مرة، أن جميع الفنادق العائمة كثيرة، ومناسبة، ولكن السؤال الأهم هو "كيف تريد رحتلك النيلية أن تكون؟". بمعنى أنه لو أراد، ذلك الصديق، أن تكون رحلته النيلية صاخبة، فنصيحتي له أن يشارك في رحلة يكون ضيوفها من الإيطاليين، فالكثير يحبون هذه "الزيطة" الإيطالية في المطعم، وعلى حمام السباحة، وفي المزارات، وفي السهرات الليلية على سطح المركب. أما إذا رغب في رحلة نيلية، هادئة نسبية، ومعتدلة الأصوات، يكون الحديث فيها بين الركاب هادئاً، حتى أن حفلاتها الليلية يكون لها أصول وبروتوكول، فإنني أنصح بالفندق العائم الذي يكون ضيوفه من البريطانيين. أما إذا كانت رغبة الصديق، أن ينسى الدنيا وما فيها، وألا يسمع إلا صوت الطيور وهي تحلق حول المركب، في إبحارها ووقوفها، فعليك بصحبة اليابانيين ... فكلامهم همساً، وعند تواجدهم على سطح المركب، تجد في يد كل منهم كتابه، ولو تحرك من مكانه، تحت أشعة الشمس الدافئة، ليحضر طعاماً أو شراباً، فتكون حركته أشبه بحركة النسيم، وهو ما يدفع معظم ضيوف الأقصر، من المصريين، كبار السن، للقتال على أن يكونوا من ركاب الفندق العائم، الذي به الأفواج اليابانية.

وحرصاً من اليابان على إسعاد شعبها، ولتأكد من توفير متطلباته، فإن وزارة السياحة اليابانية، ترسل لجنة، في شهر يوليو أو أغسطس من كل عام، لتفقد، الفنادق الثابتة والعائمة، التي تطلب استضافة الأفواج السياحية اليابانية، خلال الموسم الشتوي. ويعتبر الفندق الذي يحظى بقبول وموافقة اللجنة، هو الفندق "سعيد الحظ". وللحق، فإن الاختيار ليس مسألة حظ، إنما، يعتمد بالأساس، على اجتهاد إدارة الفندق في توفير متطلبات السائح الياباني، وهو ما دفع الكثير من فنادق الأقصر، الآن، إلى تجهيز غرفها بالجاكوزي، باعتباره واحداً من المطالب اليابانية. وأعترف أننا استفدنا، كثيراً، من هذه اللجان، فلقد جاءت للأقصر للمرور عل الفنادق المقدمة، ومعها ما يعرف بـChecklist، وبها كل مفردات التفتيش على أي فندق، بدءاً من الغرف ومحتوياتها، والحمامات، والمطاعم، مروراً بنظم الأمن، ووسائل الراحة المتاحة، وغير ذلك من بنود التفتيش. كانت هذه القائمة عبارة عن 20 صفحة، أو تزيد قليلاً، وهو ما أتاح للفنادق، الفرصة للإرتقاء بمستويات الخدمة لديهم، بما يتناسب مع رغبة، وتوقعات السائحين.

وللعلم، فإن السائح الياباني، هو أكثر السياح إنفاقاً في الأقصر، يليه في ذلك السائح الأمريكي. حتى إنك إن سألت العاملين المصريين في فنادق الأقصر، عن أهم وأحب ضيف تسعدون بوجوده في الفندق، يبادرونك بالإجابة، فوراً، وبل أدنى تردد، "الياباني"، ولو ناقشتهم في أسباب اختيارهم، تجد الإجابة، أيضاً، موحدة، بأنه جم الأدب في تصرفاته، وطلباته، لا يرفع صوته أبداً، وأنه "في منتهى الكرم" مع العاملين في الفندق. إضافة إلى ذلك، فقد كوّن العاملون بالفنادق نظرية عن السائح الياباني، أثبتت صحتها من خلال المتابعة، هي أن السائح الياباني لا يترك غرفته، ليبدأ جولاته السياحية، إلا ويكون قد رتبها قبل مغادرته!! هل تصدق ذلك؟! بينما يؤكد العاملون، على أن غرف سياح من جنسيات أخرى، يتعذر عليهم فيها تحديد من الملايات من مناشف الحمامات! هنا يتضح الاختلاف بين الشعوب والثقافات.

وهو ما يذكرني بموقف مر بي، إذ كنت مضطراً للعودة إلى القاهرة، في مهمة رسمية طارئة وعاجلة، ولم تتناسب مواعيد الطيران المتاحة مع طبيعة الأمر، فأخبرني مسئولي مطار الأقصر بإمكانية استخدام طائرة شارتر، وصلت للتو، قادمة مباشرة من اليابان إلى الأقصر، وليست مدرجة على جدول الرحلات القادمة، مما يتيح لي استخدامها. وصعدت، بالفعل، إلى الطائرة، وقبل أن اتخذ مقعدي، اصطحبني قائد الطائرة في جولة داخلها‘ قائلاً "هل تصدق أن هذه الطائرة كانت، لتوها، ممتلئة بالركاب لمدة 14 ساعة متواصلة، من طوكيو إلى الأقصر؟" والحقيقة أنني ذهلت من حال كابينة الركاب، فأرضها نظيفة ليس عليها ورقة، ومقاعدها معتدلة بانتظام، وحماماتها نظيفة، لدرجة تظن معها، أنها لم تستخدم مطلقاً. فقلت له أنها ثقافة شعب ... وسلوك شعب، تعلم النظافة والنظام، وتوارثهما عبر الأجيال.

ولعلنا، جميعاً، نذكر، بأسى، أحداث مذبحة الأقصر، التي أراقت الدماء في البر الغربي، في نوفمبر 1997، وراح ضحيتها 58 فرداً، منهم 10 يابانيون، مخلفة أكبر الأثر في قلوب الجميع، مما دفع الحكومة اليابانية بطلب إقامة نصب تذكاري لضحاياها في منطقة الحدث، في "معبد الدير البحري". نقل لي هذا الطلب، السفير الياباني بالقاهرة، مؤكداً، أن أهالي الضحايا قد ساهموا بجزء من تعويضاتهم، إضافة إلى مساهمة حكومة اليابان، من أجل بناء هذا النصب التذكاري. والواقع أن الأمر كان غاية في الإحراج، فأنا أتفهم، تماماً شعور اليابانيين، حكومة وشعباً، وفي نفس الوقت ليس من المعقول أن نبني نصب تذكاري في أهم مناطق الأقصر، نظراً لطبيعتها التاريخية من ناحية، ومن ناحية أخرى لما سيخلفه، ذلك، من أثر نفسي في قلب أي سائح قادم إلى الأقصر. فبدأت الاقتراب، بالفكر، من السيد السفير، مؤكداً على رغبتنا المشتركة في تخليد أرواح الضحايا، ومتسائلاً عن جدوى بناء جدار من الطوب والأسمنت لهذا الغرض. ثم عرضت عليه أن يكون تكريم أرواح الضحايا، عن طريق إنشاء مكتبة متكاملة بالأقصر، تكون عنواناً لروابط الصداقة بين البلدين، تقدم العلم، والمعرفة، والثقافة لأهالي البر الغربي خاصة، وأهالي الأقصر عامة. وننقش على جدرانها اسماء الضحايا اليابانيين، فتكون ذكرى لأرواحهم، بأسلوب يليق بالشعب الياباني. فكل من يقرأ، فيها، كتاباً أو يتعلم بها لغة جديدة، أو يدرس الحاسب الآلي، سيكون ذلك أجمل ذكرى لأرواح هؤلاء الضحايا.

وكانت هذه الفكرة، بمثابة مفاجأة بالنسبة للسفير، ولم ينكر إنبهاره بها، إلا أن الأمر يتطلب العرض على حكومته، قبل الموافقة. وفي خلال شهر، من لقاءنا، جاءني الرد بالموافقة، وبدأ العمل. أقول هذا لأوضح عراقة، وحضارة الشعب الياباني، في قبوله للرأي، والفكر الآخر، خاصة إن كان ذلك في إطار الإنسانية، والعلم، والثقافة، وليس على أساس التمسك بالرأي، والإصرار عليه.

Email: sfarag.media@outlook.com