العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

استقليت سيارتي ... والعرق يتصبب من جميع جسدي ... وما أن وصلت إلى استراحتي، حتى شعرت بضيق شديد في التنفس.

عندما دخلت نادي الدعامات

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

أقصد هنا تلك الكائنات الصناعية الصغيرة، التي يتم تثبيتها داخل جسم الإنسان ...ونعم فإن لها نادٍ خاص بها، تقتصر عضويته على رواد معينين ... ممن ضاقت شرايينهم، أو انسدت، فعجز الدم عن التدفق فيها ... ولقد صرت عضواً بنادي الدعامات منذ بداية الألفية الحالية.

بدأت القصة عندما كنت محافظاً للأقصر ... فوضعت خطة شاملة لتطوير المحافظة، كان من ضمن محاورها، إعادة فتح طريق الكباش، وهو ما يتطلب إزالة العديد من المباني والمنازل، التي أقامها الأهالي فوق الطريق ذاته.

فوفقاً للخطة الموضوعة، كانت هناك، عندئذ، منطقة محددة، يتعين البدء في إزالة مبانيها، في خلال الأسابيع اللاحقة، وكان لابد من شرح الموقف للأهالي ... وآثرت أن أقوم أنا بهذه المهمة، وأن أشارك الأهالي في جميع التفاصيل، بدءاً بما سيحدث، مروراً بالتعويضات والمساكن الجديدة التي سينتقل الأهالي إليها، وصولاً لأهمية تنفيذ هذا المشروع بالنسبة لمصر عامة، ولأهالي الأقصر خاصة.

وكان يوم الجمعة، وذهبت للصلاة مع الأهالي حتى نتمكن من التباحث في الأمر بعد الصلاة ... وذهبت منفرداً، إلا من سكرتيري الشخصي، لإثبات أخوية الجلسة، وليس أن السلطة جاءت لفرض واقع معين ... إذ كانت العادة أن يتحرك المحافظ ومعه "جوقة" من وكلاء المحافظة ومديريها والعاملين بها ... وكان الترحيب حاراً، كعادات أهل الصعيد.

وما أن فرغنا من الصلاة، حتى بدأنا نتحاور لأشرح أهمية فتح طريق الكباش بالنسبة لمصر، وما لفتحه من فوائد ستعود على جميع أهالي الأقصر ... كما استفضت في شرح أسلوب التعويضات الذي سنتبعه، إذ كان مقرراً أن يتم تعويض الأهالي عن الأرض، وعن المسكن، فضلاً عن نقلهم إلى مساكن جديدة، كانت قد جُهزت سلفاً، كجزء من خطة التطوير، وقبل البدء في تنفيذ عمليات الإزالة.

كنا قد بدأنا حوارنا، بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، في حوالي الواحدة ظهراً، وكان بالمسجد نحو مائة فرد، وهي سعة المسجد، فإذا بأعداد الأهالي تتزايد، فانتقلنا بمجلسنا إلى "الديوان"، وهو البيت الكبير في القرية، الذي يستخدمه جميع أهاليها في مناسباتهم، أفراحاً كانت أو أحزاناً. وزادت الأعداد المشاركة في الحوار إلى نحو ألفي شخص ... أضافوا إلى الحوار سخونة ... فهذا يرفض ترك منزله الذي ولد وعاش فيه ... وهذا يرفض ترك منزله الذي به رائحة عرق أبويه وأجداده ... وذلك يرفض الانتقال بعيداً عن مقر عمله أو باقي أفراد أسرته ... وآخر يرفض قيمة التعويض أو أسلوبه ... وهذا يصيح "هتهد بيوتنا ومش هتلاقي تحتها حاجة"!

وزادت الأعداد ... وزادت الانفعالات ... وتعالت الصيحات... وشارك في الحوار العديد من النسوة ... وللعلم، فإن للمرأة الصعيدية مكانة عالية بين أهل الصعيد، على غير ما يصور البعض، خاصة إذا كانت هذه المرأة هي الجدة أو "العمة" كما يطلق عليها. ووجدت نفسي وحدي، أصارع كل هذه الأصوات ... والآراء ... والأفكار، التي أتفق مع بعضها، ولكن المصلحة العامة تقتضي غير ذلك. ومرت ثلاث ساعات أخرى، وصارت الساعة الخامسة مساءاً ... ولاحظ، عندئذ، البعض من كبار السن، أن مظاهر التعب والإرهاق قد بدت عليّ ... فاقترحوا استكمال الحوار في يوم آخر، خاصة أن آذان المغرب على وشك أن يرفع، والديوان محجوز لمناسبات أخرى.

استقليت سيارتي ... والعرق يتصبب من جميع جسدي ... وما أن وصلت إلى استراحتي، حتى شعرت بضيق شديد في التنفس ... فاتصلت بأحد الأطباء في القاهرة، طالباً المشورة، فنصحني بالتوجه فوراً إلى المستشفى الدولي، وبقى معي على الهاتف حتى وصولي للمستشفى، ليتحدث لطبيب الاستقبال، ويوجهه لسرعة إسعافي. في تلك الأثناء وصل أمر مرضي للمشير طنطاوي، فأمر بنقلي فوراً إلى القاهرة، وأرسل طائرة عسكرية لتنفيذ المهمة، ووصلت إلى المستشفى في القاهرة، مع بزوغ الشعاع الأول لضوء الفجر. ومرت عليّ الرحلة طويلة ... فبالرغم من أنني ركبت الطائرة الهليكوبتر مئات المرات في حياتي العسكرية، إلا أن لهذه المرة، تحديداً، وقعاً خاصاً في ذاكرتي، حفره بها قوة صوت محركاتها ومروحاتها، الذي استشعرت مدى إزعاجه لأول مرة في حياتي.

كانت المستشفى مستعدة لاستقبال حالتي، وجاء التشخيص بضرورة الدخول، فوراً، لغرفة العمليات لإجراء قسطرة بالقلب. وبالفعل وصل الجراح، ونظرت إلى وجهه ... إنه زميل ملعب كرة القدم! فلقد كان من عادة المشير طنطاوي، بعد الانتهاء من اجتماع مجلس الوزراء، يوم الأربعاء من كل أسبوع، أن نتوجه، مباشرة، إلى الصالة المغطاة، في الاتحاد الرياضي العسكري، للعب كرة القدم لمدة ثلاث ساعات ... كانت تلك الساعات كافية لإخراج كل الهموم، والتوتر، والشحن الانفعالي من العمل طوال الأسبوع. واعترف، أنني شعرت بالخوف، في تلك اللحظة، لأول مرة في حياتي. فلم أشعر بذلك الخوف من قبل، حتى عندما دخلت مستشفى فايد العسكري، أيام نكسة يوليو 67، وأزلت الزائدة الدودية، على أضواء مصابيح الكيروسين. ولم اهتم كثيراً عندما رأيت أثار العملية على جسدي، والتي علق البعض عليهابأن الجرح يشبه ذلك الناتج عن عمليات الولادة القيصرية، وهو ما كان بسبب ظروف الحرب وانقطاع الكهرباء.

ولكن اليوم سأجري عملية بالقلب مع زميلي في ملعب كرة القدم ... ودخلت غرفة العمليات واستسلمت تماماً وأغمضت عيني، متوكلاً على الله ... وخرجت منها حاصلاً على عضوية "نادي الدعامات" بعد أن تم تركيب ثلاث دعامات لشرايين القلب المختلفة. عرفت، بعدها، أن طبيبي هذا، واحداً من أبرع جراحي القلب في القوات المسلحة. وقد جاءني بعد خروجي من غرفة الإفاقة، للاطمئنان عليّ، فمازحته قائلاً "بتلعب كرة، وتعمل قسطرة" ... فضحك وقال لي "زي ما حضرتك ضابط متميز، وبتلعب كرة ... أنا طبيب شاطر وبلعب كرة برضه". ومنذ ذلك التاريخ أصبحنا صديقين، فهو من اعتمد أوراق عضويتي بنادي الدعامات.

عدت بعدها إلى الأقصر، واستكملت مهمتي، وأعدت فتح طريق الكباش بطول 3 كم، ولم يتبق منه سوى 60 متراً، لتكتمل تلك التحفة الأثرية، وتنضم إلى باقي أجزاء الأقصر، أكبر متحفاً مفتوحاً في العالم ... الذي كان بوابتي إلى نادي الدعامات.

Email: sfarag.media@outlook.com