العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

لتكتشف أن الباخرة العائمة قد ارتطمت بقاع النهر، نتيجة لانخفاض منسوب مياه النيل، وصارت عاجزة عن التحرك.

إنهم يقتلون الجياد
 

لواء د. سمير فرج

 11 يناير 2018


تلقيت، فى الأسبوع الماضي، العديد من الاتصالات الهاتفية، بعضها من أهالى الأقصر، والبعض الآخر من ملاك ومديرى الفنادق العائمة، ومن المرشدين السياحيين، وغيرها من الأصدقاء الذين شجعتهم على الحضور إلى مصر، لقضاء إجازة رأس السنة وأعياد الميلاد، والاستمتاع بالطقس الرائع فى الأقصر ... عروس السياحة المصرية ... وانتهاز الفرصة لقضاء إجازة نيلية بأحد الفنادق العائمة بين الأقصر وأسوان، التى يُعرفها البعض بأنها «رحلة العمر»، التى اعتبرها، شخصيا، أجمل رحلات العالم كله.

لقد استقبلت الأقصر العام الجديد بكل الخير ... إذ عادت الأضواء، مرة أخرى، تتلألأ فى فنادقها .... وعادت رحلات البالون الطائر، بألوانه الزاهية، تزين سماءها مع نسمات الفجر الجميلة ... وامتلأت ساحة الكرنك، وغيرها من المزارات السياحية، بالزوار، مصريين وأجانب ... وعجت أسواقها وبازاراتها بالوافدين إليها، لشراء الهدايا التذكارية من الحلى المصنوعة من الفضة، والتوابل، والفول السوداني، والسجاد ... وجابت عربات الحنطور، المحملة بالسياح، جميع شوارعها، ينطلق منها صوت الفنان الراحل محمد العزبي، يشدو بكلمات أغنية «الأقصر بلدنا ... بلد سواح ...»، التى اتخذها، أهالى الأقصر، نشيدا قوميا لهم. ولكن، على الرغم من كل هذا النجاح، جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن ... وأركز هنا على «السفن» ... فلقد تكررت المشكلة نفسها التى تحدث فى هذا التوقيت، من كل عام ... وهى شحوط الفنادق العائمة!!

تخيل نفسك، عزيزى القارئ، مبحرا فى مياه النيل الجميلة، على متن أحد تلك الفنادق العائمة، مستلقيا على ظهرها، تستمتع بأشعة الشمس الدافئة، تحيطك الخضرة على جانبى النيل ... وفجأة تسمع صوت ارتطام قوى ... فتهتز الباخرة بعنف، وكأن زلزالاً شديداً قد أصابها ... وتسمع أصوات صراخ الأطفال والسيدات من هول المفاجأة ... لتكتشف أن الباخرة العائمة قد ارتطمت بقاع النهر، نتيجة لانخفاض منسوب مياه النيل، وصارت عاجزة عن التحرك ... لقد «غرست فى الطين»، كما يقال بالعامية البسيطة!

الباخرة لا تستطيع التحرك على الإطلاق ... وتظل عالقة فى مكانها منتظرة العون والنجدة، لجرها إلى منطقة يرتفع فيها منسوب المياه، وهو أمر صعب، ومعقد، ويستغرق بعضا من الوقت، نتيجة انحسار المياه فى محيطها ... ويصيب المكان حالة من الهرج والمرج، ويبدأ وكيل الفوج السياحى فى استدعاء العربات السياحية لنقل الركاب، برا، إلى أقرب مدينة، بعدما يتم إنزالهم من كابينة الباخرة، وجميع حقائبهم، فى زوارق صغيرة لتقلهم إلى البر ... ثم يستقلون الأتوبيسات لاستكمال الرحلة، برا، إلى أسوان أو الأقصر، وفقا للاتجاه المحدد ... فلا يفقد السائح، بذلك، رحلته، التى كان يحلم بها، ويخطط لها منذ فترة، فحسب ... ولكن تتكون لديه خبرة سيئة عن السياحة فى مصر، نتيجة لمعاناته فيها، فيحمل تلك الذكريات معه إلى بلاده ... ولن أستفيض، هنا، فيما لذلك من دلالات وعواقب.

هذه المشكلة أزلية ... تتكرر، كل عام، منذ أكثر من 25 عاما ... نتيجة لاكتفائنا بأسلوب «الإدارة بالأزمات» أو Management by Crisis، بدلاً من «الإدارة بالأهداف» أو Management by Objective... بمعنى إدارة الأزمة بعد حدوثها، بدلاً من وضع خطة للقضاء عليها قبل بدايتها. ففى كل عام، ومع «شحوط البواخر العائمة»، يتوجه، على الفور، وزير السياحة إلى الأقصر وأسوان، وإن لم يكن حل المشكلة فى يده ... وينتقل وزير النقل، أيضاً، إلى هناك، على الرغم من أنه لا يملك لها حلاً فى إطار اختصاصه ... فالمشكلة تكمن فى منسوب المياه فى نهر النيل، وهو اختصاص أصيل لوزارة الرى والموارد المائية، ولها أن تتعاون، فى الحل، مع وزيرى السياحة والنقل، والمحافظين المسئوولين، لوضع خطة لإدارة تدفق المياه فى النهر، بما يسمح بمرور هذه الفنادق العائمة. لقد تركت الأقصر وعلاقاتى المهنية طيبة مع جميع الوزراء، إلا مع السيد وزير الري، بسبب تكرار هذه مشكلة «الشحوط»، سنوياً، عندما يتم تخفيض منسوب المياه فى نهر النيل.

أذكر فى أثناء رئاستى محافظة الأقصر، أن صاحبت الدكتور محمود محيى الدين، وزير الاستثمار، آنذاك، فى زيارة رسمية إلى ألمانيا وهولندا، 3 أيام، للتعرف على تجربتهما فى إنشاء موان نهرية للفنادق العائمة، بهدف تكرار المناسب من تلك التجارب فى الأقصر. والحقيقة أننا شاهدنا العجب فى تلك الزيارة ... فنهر الدانوب ينقل كل منتجات ألمانيا إلى مختلف الموانى على البحار ... الماعون فى نهر الدانوب يحمل 20 سيارة مرسيدس، من المصنع إلى ميناء التصدير مباشرة ... وكل واردات ألمانيا، من الدول الأوروبية، تصل إليها عبر نهر الدانوب. بينما يمتد نهر النيل فى مصر، من شمالها على البحر المتوسط، حتى جنوبها، ولا نعتمد عليه سوى فى نسبة 5%، فقط، من حجم النقل فى مصر.

كما أذكر أن السيدة فايزة أبوالنجا، وزيرة التعاون الدولي، آنذاك، كانت قد حصلت، لمصر، على منحة من الصندوق الكويتي، لتحديد مسارات نهر النيل، من أسوان إلى دمياط، بعلامات إرشاد ومسارات عميقة لتحديث هذا المشروع. ولكن، للأسف، أصاب فكرة إنشاء ميناء نهرى فى الأقصر، ما يصيب العديد من المبادرات فى مصر، إذ تولد كفكرة رائعة وبراقة، ثم تدخل النفق المظلم، فلا تستكمل، لسبب أو لآخر.

تذكرت، وأنا أستمع إلى شكاوى أهالى الأقصر وأناتهم، وأصحاب الفنادق العائمة، تذكرت رواية «إنهم يقتلون الجياد»، للكاتب الأمريكى الشهير، «هوراس ماكوي»، التى تدور أحداثها فى عصر الكساد فى الولايات المتحدة الأمريكية ... «إنهم يقتلون السياحة» بينما نحاول أن نعبر الكساد السياحى فى الأقصر، فى عصر نحن أحوج فيه إلى الانطلاق للمستقبل.



Email: sfarag.media@outlook.com