العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

استمر هجوم القوات البريطانية والفرنسية ... براً، وبحراً، وجواً ... ركزت القوات الفرنسية في هجومها على بورفؤاد، بينما استهدفت القوات البريطانية مدينة بورسعيد.

 أنا والعدوان الثلاثي ... في بورسعيد

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

في صباح يوم 29 أكتوبر 1956 ... وأنا طفل صغير ... أنظر من شرفة منزلنا في بورسعيد ... رأيت الطائرات البريطانية والفرنسية تقصف بلدتنا الجميلة ... وفجأة رأيت جنود المظلات تهبط في منطقة مطار الجميل ... وهرولت لأبي صارخا ً"انظر إلى هذه المظلات ... إنها كتلك التي نراها في السنيما" ... وما أن رآها والدي، حتى حول مؤشر الراديو إلى محطة الإذاعة البريطانية من لندن، لنسمعها تبث رسائل لشعب بورسعيد، بالابتعاد عن مناطق محددة، حيث سيتم قصفها، وتهيب بشعب بورسعيد باللجوء إلى المخابئ.

وفي نفس الوقت، سمعنا عبر مكبرات الصوت، على سيارة تجوب شوارع المدينة، أن عبدالناصر أرسل عربات لتوزيع السلاح على أفراد المقاومة الشعبية. ونزلنا جميعاً إلى  "الجربين"، وهوالبدروم كما يطلق عليه أهالي بورسعيد. وجاءتنا الأخبار، بنجاح أبناء بورسعيد في القضاء على الموجة الأولى من المظليين الإنجليز في منطقة مطار الجميل وكوبري الرسوة.

واستمر هجوم القوات البريطانية والفرنسية ... براً، وبحراً، وجواً ... ركزت القوات الفرنسية في هجومها على بورفؤاد، بينما استهدفت القوات البريطانية مدينة بورسعيد ... واستمرت غارات الطائرات لضرب كل الأهداف العسكرية والمدنية في بورسعيد، بينما الأسطول البحري البريطاني يقصف المدينة بعنف، حتى بدأ الإنزال على شواطئها، واجتاحت المدينة الدبابات والعربات المدرعة ... واستمر القتال من شارع إلى شارع ... حتى أعلنت الإذاعة البريطانية تمام احتلال المدينة يوم 2 نوفمبر 1956.

استشهد في تلك الأيام الحزينة الكثيرين من رجال وشباب مدينة بورسعيد، الذين استبسلوا في الدفاع عن المدينة باستخدام الأسلحة الخفيفة التي أرسلها جمال عبد الناصر، وعلى أنغام وكلمات الأغاني الوطنية التي ألهبت حماس الجميع ... دع سمائي فسمائي محرقة ... إلى المعركة سنمضي سوياً إلى المعركة ... نشيد الله أكبر (الذي صار، فيما بعد، النشيد القومي لجمهورية ليبيا) ... وغيرهم العشرات.

وصعدنا من المخابئ ... وبينما والدتي تزيل بقايا زجاج منزلنا، الذي تحطم تماماً جراء هذا العدوان الغاشم، اصطحبني والدي للاطمئنان على جدتي ... وسرنا في طريقنا إلى شارع الثلاثيني وأصوات الطلقات تحاصرنا من كل جانب ... وشهداء مدينتنا على جنبات الطريق، تحيطهم دماءهم، وأياديهم ممسكة بما تيسر لهم من سلاح ... فأمرني والدي بلإسراع إلى المنزل، وإحضار الأغطية والملايات... حتى نفذ ما لدينا من أغطية، ولم ننته من تغطية الجميع!

ووصلنا إلى ميدان المحافظة ... وحي العرب ... لنجد أغلبية المنازل إما مدمرة تماماً أو محترقة ... وكلما توغلنا كان المشهد أقسى وأبشع ... وعلمنا أن قوات العدوان كانت تهدم وتحرق أي منزل يخرج منه طلقة مقاومة واحدة. ووصلنا إلى شارع الثلاثيني، ورأينا الشباب يجمعون الجرحى، وجثث الشهداء، والأسلحة الخفيفة على عربات يدوية، لإبعادها عن مسار الدوريات البريطانية.

وفي هذه الأثناء، مرت من أمامنا عربة إنجليزية مكشوفة ... من الطراز الحربي ... يجلس بها محافظ بورسعيد، وحوله أفراد من الشرطة العسكرية البريطانية ... وجابت العربة شوارع بورسعيد، مرفوعاً عليها علم أبيض ... إعلاناً عن استسلام المدينة وسيطرة القوات البريطانية عليها.

خلال فترة احتلال بورسعيد، حتى يوم 23 ديسمبر من نفس العام،عاشت المدينة بأكملها على شحنة من البطاطس والدقيق كانت معدة للتصدير في الميناء... في حين رفض أبناء المدينة تفريغ سفينتين محملتين بالمواد الغذائية، كانت القوات الإنجليزية قد أحضرتهما من قبرص مجاناً لأبناء المدينة. وخلال هذه الفترة، وما أن يحل الظلام، ويفرض علينا حظر التجوال، حتى كنا نلتف حول قناديل الزيت، كمصدرنا الوحيد للإضاءة، ونسمع أصوات غارات الفدائيين على معسكرات الإنجليز طوال الليل.

وكان من أشهر العمليات الفدائية في تلك الفترة، عملية اختطاف الضابط "أنتوني مورهاوس" ابن عم الملكة إليزابيث، والذي توفى جراء الحصار الذي فرضته القوات البريطانية، على معظم مبان بورسعيد، ومنها المقر الذي خبأه فيه الفدائيين. أما العملية الثانية، التي أزعجت القوات الإنجليزية بشدة، فكانت عملية اغتيال رئيس المخابرات الإنجليزية في بورسعيد "جون وليامز"، الذي كان يعيش في المدينة، ويتحدث العربية بطلاقة،إذ تقدم منه أحد شباب المدينة،ممسكاًبساندويتش، بداخله قنبلة يدوية، فقضى عليه في الحال. بعد تلك الحادثة، كثرت الاعتقالات لشباب وأهالي بورسعيد، وانتشرتأعمال التعذيب. أما الفدائي محمد مهران، فقد تم نقله إلى قبرص، حيث أجريت له عملية جراحية لانتزاع قرنيته لصالح أحد الضباط الإنجليز المصابين، ليعود مهران، بعدها، إلى بورسعيد فاقداً البصر.

وفي يوم 23 ديسمبر 1956، انسحب الإنجليز والفرنسيين من بورسعيد، ودخلتها طلائع الجيش المصري ... فكان، بحق، يوماً مشهوداً، لم تمح تفاصيله من ذاكرتي يوماً. ورغم صغر سني، في هذه الفترة، إلا أنه كان اليوم الذي عاهدت نفسي فيه على الالتحاق بالقوات المسلحة المصرية، لأكون ضابطاً بها.

وعشنا، وعاشت مصر، أجمل الاحتفالات بعيد النصر،وذكراه في 23 ديسمبر من كل عام، فكان أهالي بورسعيد يخرجون جميعاً، رجالاً ونساءاً وأطفالاً، وحتى كبار السن منهم، كانوا يخرجون لتحية الرئيس عبد الناصر، والاستماع إلى خطابه في هذه المناسبة الجميلة، ونحتفل مع صوت الفنانة شادية تشدوأجمل أغانيها ... أمانة عليك ... يا مسافر بورسعيد ... وغيرها.

ومرت السنوات، وأصبح 23 ديسمبر مجرد رقماً في النتيجة، يحمل عبارة "عيد النصر ... عطلة للمدارس فقط" ... وحتى طلبة المدارس لا تعرف مدلول هذا اليوم في حياة الأمة ... وأصبح كفاح شعب بورسعيد مجرد ذكرى من ذكريات الوطن.

Email: sfarag.media@outlook.com