العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

ونظراً لطبيعة الشعب التركى المهذبة، والمنضبطة، خاصة سكان الريف منهم، واحتراماً لتقاليد السفارة المصرية، التى توافدوا إليها بغير موعد مسبق، فقد اختاروا من بينهم عشرين فرداً، من أكابر العائلة، للدخول إلى مبنى السفارة، للجلوس مع ابن عمهم، الدكتور ماهر أباظة، والحديث معه.

جنازة فى أنقرة
 

لواء د. سمير فرج

 1 فبراير 2018

تزامن وصولى إلى العاصمة التركية، أنقرة، كملحق عسكرى لمصر بها، مع يوم وصول السفير المصرى الجديد إليها، وهو السيد السفير محمد الديواني، واحداً من أكفأ سفراء الخارجية المصرية، علماً، وخلقاً، وثقافة.

ونظراً لسيطرة الجيش التركى على مقاليد الإدارة فى البلاد، منذ عهد أتاتورك، فقد كان البروتوكول المعمول به هو، أن يقدم السفير الجديد أوراق اعتماده، إلى الرئيس التركي، فى قصر الرئاسة، فى شنكايا، فى حضور الملحق العسكرى لبلاده.

وبالفعل حضرت مراسم اعتماد السفير محمد الديوانى إلى أنقرة، والتى أعقبها جلسة حوار مع الرئيس التركى توجورت أوزال، أثنى خلالها على العلاقات الثنائية بينه وبين الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وعلى التعاون المشترك بين مصر وبلاده، خاصة إبان حرب الخليج، والذى كان أحد أهم أسباب تحرير الكويت، التى حررتها القوات المصرية، بقيادة الفريق صلاح حلبي، رحمة الله عليه، والذى تولي، فيما بعد، رئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية.

والحقيقة أن العلاقات المصرية التركية كانت فى قمة ازدهارها، آنذاك، حتى أن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، فى زيارة لاحقة له إلى أنقرة، تلقى استقبالاً رسمياً، كان حديث وسائل الإعلام، حينها، إذ لم يلتق مثيله مع أى من رؤساء جمهوريتى فرنسا والأرجنتين، اللذين تزامنت زيارتهما فى نفس توقيت زيارة الرئيس المصرى... وهو ما له دلالات صريحة وواضحة على ثقل مصر الدولى لدى تركيا.

وفجأة، توفى الرئيس التركى توجورت أوزال، آخر الرؤساء الإصلاحيين فى تركيا، وأعظمهم، من وجهة نظري، والذى تقدمت تركيا، فى عهده، فى جميع المجالات؛ اقتصادياً وسياسياً. وقررت الإدارة المصرية إيفاد السيد الدكتور/ ماهر أباظة، وزير الكهرباء والطاقة، حينها، ممثلاً عن السيد رئيس الجمهورية، على رأس وفد مصرى للمشاركة فى الجنازة، وتقديم واجب العزاء. وقد كان الدكتور/ ماهر أباظة، رحمة الله عليه، وزيراً بمعنى الكلمة، امتلك المهنة من كافة جوانبها، وأضاف إلى المنصب أكثر مما أضاف المنصب لشخصه. إلا أننى تعجبت للاختيار، فى ظل حجم العلاقات المصرية التركية، والتى توقعت معها أن يكون التمثيل المصرى برئاسة رئيس مجلس الوزراء على الأقل.

لم يدم تعجبى طويلاً... وهممت فى اليوم التالى للمشاركة فى الجنازة، ضمن وفد مصر الرسمي. وكان الترتيب يقتضى أن يلتقى أعضاء الوفد المصرى فى مقر السفارة المصرية، والانطلاق منها إلى مراسم تشييع الجثمان. فتوجهت بسيارتي، خلف السفير الديوانى والوزير ماهر أباظة، إلى سفارتنا، فوجدنا الشارع مزدحماً أكثر من عادته... كنا قد اعتدنا على مستوى معين من الزحام بسبب تزاحم الأتراك على سفارة ألمانيا، للحصول على تأشيرات للعمل بها... ولكن مستوى الزحام اليوم مختلف!

وما أن وصلنا إلى مبنى السفارة المصرية، حتى علمنا السبب... فقد أذيع اسم رئيس وفد مصر فى الصحف التركية، مضافاً إليه، ما لم نلتفت له حينها، فقد كان الخبر «رئيس وفد مصر هو الدكتور ماهر أباظة، ذو الأصول التركية»... فعائلة أباظة، تنحدر من أصول تركية، أستوطنت مصر، وأختلطت بأهلها فى دلتا النيل، وأصبحت أحد أعرق العائلات فى تاريخ مصر الحديث. وما أن قرأ أفراد العائلة، فى تركيا، عن نبأ وصول ابن عمومتهم، إلى أنقرة، فى زيارة رسمية، حتى تدافعوا، عن بكرة أبيهم، إلى مقر السفارة المصرية للقائه، والترحيب به.

كانت مظاهرة فى حب ماهر أباظة... امتلأت حديقة السفارة المصرية بالمئات من الأتراك من عائلة أباظة... بينما آخرون مازالوا يتوافدون... لم يكن الوزير ماهر أباظة نفسه يعلم بحضورهم، ولكنها كانت مفاجأة سارة... أحضان، وقبلات، ومشاعر طيبة، وصور تذكارية، كانت كل ما يريده أفراد العائلة من ابن عمهم... تنظر إلى الوزير ماهر أباظة واقفا بينهم، فتتأكد أنه واحد منهم... تطابق فى الملامح، وفى حمرة الوجه، بالرغم من اختلاف اللغة. استعنا بالسيدة جلبهار هانم، سكرتيرة السفير المصري، للترجمة، والتى كنا نلقبها بهرم السفارة المصرية، لتفانيها فى عملها مع السفراء المصريين المتعاقبين على السفارة، فقامت بتعريف أفراد العائلة للدكتور ماهر أباظة... ومع تزايد الأعداد، استدعينا سرورى بيك، سكرتير الملحق العسكري، للمعاونة فى الترجمة... ولم يدخر نورى بيك جهداً فى تقديم واجب الضيافة، قدر استطاعته، لتلك الأعداد الغفيرة، التى لم يستعد مسبقاً لاستقبالها... ولكن ما لمسه من فرحة عارمة بهذا الحشد عظيمة، دفعه للإبداع فى عمله.

ونظراً لطبيعة الشعب التركى المهذبة، والمنضبطة، خاصة سكان الريف منهم، واحتراماً لتقاليد السفارة المصرية، التى توافدوا إليها بغير موعد مسبق، فقد اختاروا من بينهم عشرين فرداً، من أكابر العائلة، للدخول إلى مبنى السفارة، للجلوس مع ابن عمهم، الدكتور ماهر أباظة، والحديث معه. استمر اللقاء حتى الخامسة من بعد ظهر ذلك اليوم، قبل أن يغادر الجميع مبنى السفارة المصرية، على موعد بلقاء آخر يتجدد مع أفراد عائلة أباظة سواء فى مصر أو فى تركيا.

ذاع خبر ذلك اللقاء المصرى التركى فى العديد من وسائل الإعلام المحلية، خاصة أن الشرطة التركية كانت قد تدخلت للسيطرة على الموقف، والحفاظ على القواعد والنظام... وأذيع، حينها، أن حشود عائلة أباظة، عند السفارة المصرية، قد أربكت المرور فى أنقرة، أكثر مما أربكتها جنازة الرئيس توجورت أوزال.



Email: sfarag.media@outlook.com