العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وبالرغم من سفرى إلى اليمن، للمشاركة فى الحرب بها، لمدة ثلاثة أعوام متواصلة، كانت من أصعب وأحلك الفترات، إذ ظننا أننا فقدنا كل ما تعلمناه من العلوم العسكرية، نظراً لاختلاف شكل وطبيعة الحرب هناك، رغم كل ذلك، حملت معى صندوقا، به مذكرات الدراسة لاختبار قبول كلية الأركان حرب.

الطريق إلى كلية الأركان حرب
 

لواء د. سمير فرج

 14 فبراير 2019


طريق الألف ميل يبدأ بخطوة... هذا ما تعلمناه منذ الصغر، إلا أن تلك الخطوة الأولي، لابد أن يسبقها تحديد الهدف، وهو ما كان منهجي، وعقيدتي، منذ تخرجى فى الكلية الحربية، وأنا فى السابعة عشرة من عمري.

منذ اليوم الأول، فى الكتيبة، رأيت النقيب موريس عزيز غالي، يغلق على نفسه باب مكتبه، فى مساء كل يوم، لساعات طويلة، وعلمت أنه يذاكر استعداداً للالتحاق بكلية الأركان حرب. وبسؤال قادتى عن أهمية ودور هذه الكلية، وأسباب سعى الضباط للالتحاق بها، أدركت أن دراسات الأركان حرب، بمنزلة شعار الجودة الذى يميز الضباط الأكفاء، عن غيرهم، وأولى خطواتهم لسلم الترقي، بجانب حسن أداء العمل، بالطبع، وهى فرصة لا تتاح إلا لمن يجتاز مسابقة، واختبارات، الالتحاق بكلية الأركان حرب، التى يتقدم لها مئات الضباط كل عام... ومنذ ذلك اليوم، وضعت هذا الهدف نُصب عيناي، وبدأت الخطوة الأولي، فى طريق تحقيقه، بجمع المواد العلمية، الواجب عليّ استذكارها، لاجتياز الاختبارات، فى يوم من الأيام.

وبالرغم من سفرى إلى اليمن، للمشاركة فى الحرب بها، لمدة ثلاثة أعوام متواصلة، كانت من أصعب وأحلك الفترات، إذ ظننا أننا فقدنا كل ما تعلمناه من العلوم العسكرية، نظراً لاختلاف شكل وطبيعة الحرب هناك، رغم كل ذلك، حملت معى صندوقا، به مذكرات الدراسة لاختبار قبول كلية الأركان حرب.

وعُدنا من اليمن، للمشاركة فى حرب 67، وفى أثناء الانسحاب، وتحديداً فى ممر متلا، هاجمنا طيران العدو الإسرائيلي، ففقدت أولى خطواتى فى الطريق إلى كلية الأركان حرب، إذ تدمرت مركبتى العسكرية، ومعها صندوق الكتب والمذكرات.. ومع ذلك لم أحد عن الهدف.

عادت قواتنا إلى ضفاف قناة السويس، لتجهيز الدفاعات، وحفر الخنادق، فالتقيت قائدي، العقيد أركان حرب محمود عمران، رحمة الله عليه، ولازمته، بصفتى ضابط استطلاع الكتيبة، المرافق دائماً للقائد، وكان رجلا عظيماً، وضابطاً متميزاً، لم يبخل عليّ، وعلى غيري، بعلمه الغزير، القيم، فزادنى هذا الرجل العظيم إصراراً على الالتحاق بهذه الكلية، بل وأمدنى بمذكرات امتحانات القبول بها... فتجدد الحلم، واستعدت بوصلتي، للوصول لهدفي.

لم يخل الطريق من العقبات، إذ صدر قرار بتعديل شروط التقدم للقبول بكلية الأركان حرب، بضرورة أن يكون المتقدم حاصلا على دورة قادة كتائب، فابتعد الحلم مرة أخري؛ فلقد كنت، حينها، برتبة النقيب، وعليّ أن أنتظر نحو ست سنوات قبل الوصول للرتبة، التى تؤهلنى للحصول على دورة قادة كتائب... ولم يثننى ذلك عن الهدف.

وفجأة تقرر نزولنا إلى القاهرة، بمعسكرات دهشور، لنتسلح بالمركبات الجنزير الميكانيكية، ونصبح مشاة ميكانيكية. وهناك، فى دهشور، كنا فى غاية الحماس لاستخدام تلك المجنزرات الجديدة، كانت تدريباتنا تسير على أكمل وجه، وبفضل الله، تفوقت فى التدريب، وأنا قائد سرية، إلا أن الطائرات الإسرائيلية هاجمتنا، وأحدثت خسائر فى قوات الفرقة، بقيادة العميد أركان حرب خيرى حسين. وفى اليوم التالى للغارة الإسرائيلية، حضر إلينا وزير الحربية، آنذاك، الفريق أول محمد صادق، لرفع الروح المعنوية للضباط، والجنود، والتخفيف من وقع آثار الغارة الأليمة، بعدما وصل طيران العدو لمشارف القاهرة.

وفى نهاية اللقاء، الذى جمع نحو عشرين ألف جندي، وآلاف الضباط، طلب وزير الحربية من قائد الفرقة تسمية أفضل قائد لواء، ونادى عليه، فسأله وزير الحربية عن منصب يرغب فى التعيين فيه، كمكافأة له، وهو أحد أساليب رفع الروح المعنوية المتعارف عليها، فأجابه قائد اللواء برغبته فى العمل كملحق عسكرى لمصر بالخارج، فاستجاب وزير الحربية لرغبته، وطلب منه الوجود، صباحاً، فى مقر إدارة سلاحه، لإنهاء إجراءات تسليم اللواء، والبدء فى إجراءات تسلُّم المنصب الجديد. ثم أعاد وزير الحربية طلبه بتسمية أكفأ قائد كتيبة، من بين 15 كتيبة، ونادى عليه مكرراً سؤاله عن أمنيته فى منصب جديد، فأجابه المقدم برغبته فى الالتحاق بالمخابرات الحربية، فكان له ما تمني.

ثم جاء الدور على قادة السرايا، وعددهم نحو! خمسين، فنادى قائد الفرقة على النقيب سمير فرج، وسألنى وزير الحربية عن رغبتي، فتذكرت حلمي، الذى لم يفارقنى يوماً، وأجبت، على الفور، يا فندم عايز أنزل فرقة قادة كتائب... فأطبق الذهول على الجميع، إذ توقعوا أن اطلب مكاناً مميزاً، حتى أن وزير الحربية رد على طلبى قائلاً، يا ابنى ما انت هتنزل فى دورك... اطلب حاجة تانية؛ فأوضحت لسيادته رغبتى فى الالتحاق بكلية الأركان حرب، اليوم، بدلاً من الانتظار لست سنوات أخري! فصدّق وزير الحربية على طلبي.

التحقت بفرقة قادة الكتائب، فكنت أصغر الضباط سناً، وأحدثهم رتبة، برتبة النقيب، واختتمتها بتفوق، وبترتيب الأول، حتى أنه تقرر تعيينى مدرساً فى معهد المشاة. وبعدها بعدة أشهر صدرت تعليمات اختبار القبول لكلية الأركان حرب، ولكن هذه المرة، دون شرط الحصول على فرقة قادة كتائب، حيث عدّلها وزير الحربية، بعد لقائه بنا، فى دهشور، إذ رأى فتح اختبارات القبول لجميع الضباط، ليقينه بأن اجتيازها يعتمد على التميز فقط.

حان موعد الاختبار، وكان عدد المتقدمين 1600 ضابط، معظمهم من رتبة العقيد والمقدم والرائد، وقلة صغيرة، وأنا منهم، برتبة النقيب، وكان الاختبار، فى ذلك العام، من أشهر الاختبارات فى تاريخ القوات المسلحة، حيث سُمح فيه، لأول مرة، بدخول الكتب، وهو ما يعرف، اليوم، بنظام اختبارات الكتاب المفتوح (Open Book)، لأنه يعتمد على الفكر والفهم. وبتوفيق من الله سبحانه وتعالي، اجتزت الاختبار بنجاح، بترتيب الأول على كل هذه الأعداد المتقدمة، وبعد عام ونصف العام من الدراسة والامتحانات، كلل الله جهدى بالنجاح، والتفوق، إذ كان مركزى الأول على زملائى بالدفعة.

وهكذا وصلت إلى نهاية أول طريق، من طرق رحلة الألف ميل، بالتركيز وبالإصرار وبالعزيمة، وقبلها بتوفيق الله، الذى أحسب أن يده كانت فوق يدى خلال مسيرتى بالقوات المسلحة المصرية.



Email: sfarag.media@outlook.com