العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

لم يقتصر نجاحهن على ذلك، وإنما توالى النجاح فى مهمة جديدة، لهؤلاء الرائدات الريفيات، بإقناع سيدات قرى الجبل، المنعزلين عن الحياة العامة، بإصدار بطاقات هوية شخصية.

أين ذهبت منظومة الرائدات الريفيات؟
 

لواء د. سمير فرج

 11 أبريل 2019


من مشكلات الإدارة المصرية، ليس الآن فقط، بل من قديم الأزل أن كثيرا من الإدارات الجديدة، فى أى موقع، فور توليها المسئولية، تعمل جاهدة على طمس أعمال، وآثار، سابقيها، أو فى أفضل الأحوال، تحاول التقليل من شأنها، دون دراسة وافية لمحاسنها، أو عيوبها، بهدف ترسيخ أفكار ومفاهيم الإدارة الجديدة، وهذا، للأسف، خطأ شائع، يشهد عليه ما سطره التاريخ على جدران معابد الفراعنة منذ آلاف السنين. أما الإدارة الناجحة، فهى ما تستفيد من كل الجهود، والأفكار، والأنظمة، والخطط السابقة، التى تم تنفيذها، خاصة أنها تكلفت جهد وموارد، وتعمل على تحسينها، وتطويرها فى ظل المعطيات الحالية.

أتذكر عندما كنت محافظاً للأقصر، أن تقدمت مجموعة من الفتيات بطلب لقائي، لعرض مشكلات العمل فى المديرية الصحية، وخلال جلسة الاستماع، علمت أنهم فتيات منظومة الرائدات الريفيات، التى أسسها وزير الصحة الأسبق، الدكتور إسماعيل سلام، أحد وزراء الصحة المتميزين فى تاريخ الحكومات المصرية، وكانت فلسفته أن هذه المنظومة، تتيح لوزارة الصحة الوجود فى قلب كل قرية مصرية، وبالتالى نشر الوعى الصحى بين الأسر المصرية، خاصة وأنها تُكمل منظومة أخري، متميزة، وهى الوحدة الصحية، المنتشرة فى قرى مصر، والمعروفة باسم Primary Health Care Unitالمعنية بتقديم الرعاية الصحية، الأولية، للمواطن المصري، داخل قريته، بدلاً من الذهاب للمستشفى المركزي.

علمت أن إحدى مهام الرائدات الريفيات، فى ذلك التوقيت، هو نقل ونشر مفاهيم فكرة تنظيم النسل، استفادة من قدرة هؤلاء الرائدات على الالتقاء بسيدات القري، والتحدث معهم فى أمور خاصة، ومن خلال الإحصاءات، تأكدت من تحقيقهن لدرجة عالية من التوعية المباشرة فى مجالات الصحة، والإنجاب، ورعاية الطفل. وكانت شكواهن، أن بمغادرة الدكتور إسماعيل سلام، منصبه، تعثرت المنظومة، وتلاشت تماماً، وأصبحت، الرائدات بلا عمل واضح، ولم يعد لديهن أهداف محددة، فضلاً عن توقف المكافآت المادية، المقررة لهن.

بعد الاستماع لشكواهن، رأيت ضرورة إحياء تلك المنظومة المهمة، وبدأت فى تحديد مواقع عملهن، وأقر بأن هذه المنظومة أسهمت فى تحقيق نجاحات كبيرة لي، خلال تنفيذ أعمال خطة التنمية الشاملة للأقصر، كان منها على سبيل المثال، لا الحصر، أعمال تجهيز ونقل 3250 أسرة، تعيش فوق 950 مقبرة فرعونية، فى البر الغربى بالأقصر، فيما يعرف بمساكن منطقة القرنة، ولإقناع الأهالى بضرورة نقلهم إلى قرية جديدة، تتوافر بها ما لم يتوافر لهم من إمكانات وسبل الحياة الكريمة، من مياه نظيفة، وكهرباء، وصرف صحي، وتعليم، وصحة، كان أمامى ثلاثة محاور، وهم رب الأسرة، وشبابها، وأخيراً المرأة، والتى تمثل ركناً مهماً من أركان الأسرة فى الصعيد، على عكس ما قد يظن البعض.

بالنسبة للشباب، كان الأمر سهلاً، فقد التقاهم، من خلال مشاركتى لهم فى الأنشطة والمسابقات الرياضية، واستغل الفرصة لإقناعهم بمزايا الانتقال إلى القرنة الجديدة، وما بها من سبل الحياة الكريمة. أما نساء القرية، فلقد وجدت ضالتى فى مجموعة الرائدات الريفيات، اللاتى تم اطلاعهن على مزايا القرية الجديدة، ليتمكنوا من نقل الصورة السليمة لسيدات القرية، وما بها من ضمانات لمستقبلهن ومستقبل أولادهن. وبالفعل حقق محور الاتصال بشباب، وسيدات، القرنة نجاحاً كبيراً، واقتنع الجميع، ونجحت عملية نقل سكان القرنة فى البر الغربى بفضل مجموعة الرائدات الريفيات.

لم يقتصر نجاحهن على ذلك، وإنما توالى النجاح فى مهمة جديدة، لهؤلاء الرائدات الريفيات، بإقناع سيدات قرى الجبل، المنعزلين عن الحياة العامة، بإصدار بطاقات هوية شخصية، تكفلت خلالها موازنة المحافظة، بجميع المصروفات اللازمة، مع صرف مكافآت لانتقالات هؤلاء السيدات، خاصة أن العديد منهن لم تكن لديهن حتى شهادات ميلاد، أو قسائم زواج، وبمجهود كبير من هؤلاء الرائدات الريفيات، حققنا إصدار ما يقرب من 30 ألف بطاقة تحقيق شخصية، وشهادات ميلاد، وعقد زواج لسيدات، لم يكن لديهن أى وجود فى سجلات الدولة.

وجاءت المهمة الثالثة لهن عندما تم تدبير جهاز الكشف المبكر لأورام الثدى للسيدات بالأقصر، وتكلف هذا الجهاز مبلغاً كبيراً، وتم تحديد مقر لإجراء الكشف، مع تخصيص مكافأة مالية، لمن يجرى الكشف. وبالفعل نجحت مجموعة الرائدات، باختلاطهن بالأسر، بإقناع عدد كبير من سيدات القري، بالحضور وتوقيع الكشف عليهن، وبالطبع نجح العلاج المبكر للحالات التى تم اكتشافها.

وفى نجاح جديد، نما إلى علمى وجود قرية بالأقصر تسمى المهيدات، كان معدل أطفال الأسرة بها من 9 إلى 12 طفلا بالأسرة الواحدة، وهو ما يرجع لموروثات، أو نواح اقتصادية، فتم وضع خطة شاملة، بمشاركة الرائدات الريفيات، ورجال الدين، والأطباء، وأنشأنا وحدة صحية فى القرية، تكاتف فيها الجميع، حتى انخفض معدل الإنجاب إلى النصف، خلال عامين. أعيد الفضل فيها، بعد الله سبحانه وتعالي، إلى جهود هؤلاء الرائدات، اللاتى دخلن إلى منزل كل أسرة، وتمكنوا من إقناعهم بالوسائل العلمية، حتى تم تحقيق المعادلة الصعبة.

وبعيدا عن النواحى الصحية، فقد تمت الاستفادة من الرائدات الريفيات، بإقناع سيدات الأقصر بالمشاركة فى الانتخابات العامة للدولة، وأتذكر أنه فى انتخابات عام 2010، شهدت محافظة الأقصر، أكبر نسبة مشاركة من السيدات. لذلك أقولها دائما، وبكل فخر، أن منظومة الرائدات الريفيات، فى محافظة الأقصر، قد أسهمت بصورة إيجابية فى تنفيذ خطة التنمية الشاملة لتطوير الأقصر، ويظل شكرى موصولا للدكتور إسماعيل سلام وزير، الصحة الأسبق، على هذا الفكر المتطور.

ولكن، للأسف، بعد مغادرة الدكتور إسماعيل سلام موقعه، كوزير للصحة، تلاشت هذه المنظومة، وأصبحت الفتيات والسيدات، بلا عمل، بل اعتبرهم البعض، عائقاً داخل المنظومة الصحية للدولة، دون النظر إلى أوجه الاستفادة الممكنة منهن. وعموما، مازلت انتظر من وزارة الصحة الحالية، أن تعيد النظر فى إمكانية الاستفادة من منظومة الرائدات الريفيات، لأنها بالفعل تستحق أن تسهم فى عملية تطوير الرعاية الصحية للمواطن المصرى فى الفترة المقبلة.



Email: sfarag.media@outlook.com