العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

ولم أكن أعلم أن الاختيار سيقع عليّ لأكون أنا ذلك الضابط، الذى سيتشرف بحمل علم كتيبته، ضمن مجموعة الأعلام، لأسير فى العرض العسكرى، أمام الرئيس عبد الناصر، للاحتفال ببسالة مدينتى الحبيبة بورسعيد.

اليوم عيدك يا بورسعيد
 

لواء د. سمير فرج

 23 ديسمبر 2021


اليوم هو عيد النصر لمصر... والعيد القومى لمدينتى الجميلة بورسعيد، التى قضيت فيها أجمل أيام عمري. لقد عاصرت تأريخ هذا العيد، وأنا طفل فى مدينة بورسعيد الباسلة، يوم انتصرت مدينتى على قوات بريطانيا وفرنسا، واضطرتهما للانسحاب، ليدخل الجيش المصرى إلى محبوبتى بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1956. وانطلقت، يومها، مع جموع أهالى بورسعيد لنستقبل طلائع قوات الجيش المصرى، عند مدخل المدينة، ونلوح لهم بإشارات النصر، وقررت، حينها، رغم حداثة سنى، أن ألتحق بالكلية الحربية لأصبح رجلاً مثل هؤلاء الأبطال.

وبعد ذلك اليوم، اعتاد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إحياء ذكرى عيد النصر، بزيارة بورسعيد للاحتفال مع أبنائها؛ فكان يمر بسيارته المكشوفة فى شوارع المدينة، ويخرج له الآلاف من أبناء المدينة رافعين أيديهم لتحية هذا البطل، ثم يتوجه بعدها لميدان الشهداء لحضور طابور العرض العسكري.

ولم أكن أدرى، حينها، أنه، فى يوم من الأيام، وبعد تخرجى فى الكلية الحربية، وقبيل سفر كتيبتى إلى اليمن، للمشاركة فى حربها، أن قائد كتيبتى سيتلقى إشارة بتخصيص ضابط لحمل علم الكتيبة، فى أثناء طابور العرض السنوى، فى بورسعيد، بمناسبة الاحتفال بعيد النصر، فى عام 1963، ولم أكن أعلم أن الاختيار سيقع عليّ لأكون أنا ذلك الضابط، الذى سيتشرف بحمل علم كتيبته، ضمن مجموعة الأعلام، لأسير فى العرض العسكرى، أمام الرئيس عبد الناصر، للاحتفال ببسالة مدينتى الحبيبة بورسعيد.

لا أنسى إحساس السعادة والفخر اللذين غمرانى، فى رحلتى إلى بورسعيد، لكن، هذه المرة، وأنا ضابط مصرى، يشارك رسمياً فى احتفال عيد النصر. تحركت بالسيارة الجيب من معسكر فايد، مقر الكتيبة، إلى بورسعيد، وفى الطريق جال بذاكرتى أحداث العدوان الثلاثى الغادر على بلدى بورسعيد، بعدما أمم الرئيس عبدالناصر قناة السويس، ذلك القرار الذى أسعد شعب مصر بأكمله، بأن تكون ملكية وإدارة القناة وطنية خالصة. وهو ما دفع الأحداث للتصاعد، وانسحب المرشدون الأجانب من العمل فى القناة، ليظهروا للعالم عدم قدرة مصر على إدارة القناة، إلا أن مرشدى مصر المخلصين فوتوا عليهم الفرصة، بنجاحهم فى إدارة القناة.

وحينها قرر البريطانيون والفرنسيون الهجوم على بورسعيد، لاحتلال القناة، بعدما اتفقوا مع إسرائيل على الهجوم على سيناء، قبلها، لتبرير هجومهما الغاشم على بورسعيد، بحماية قناة السويس. بينما، فى الحقيقة، كانت بريطانيا تستهدف، من ذلك الهجوم، السيطرة، مرة أخرى، على المناطق المحيطة بالقناة، تلك السيطرة التى فقدتها بعد توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954. أما فرنسا فكان هدفها، الأساسى، من العدوان على مصر، الانتقام من عبد الناصر، بسبب مساندته ثورة الجزائر، مع أهمية استعادة إدارة القناة، بما تمثله من شريان ملاحى عالمى. وبناء على معاهدة سيفر، قامت إسرائيل، ليلة 29 أكتوبر 1956، بمهاجمة سيناء، وهبطت مظلاتها فى عمق سيناء، فاشتبكت معها القوات المصرية. وعلى الفور، وتنفيذاً للخطة، أصدرت فرنسا وإنجلترا، يوم 30 أكتوبر 1956، إنذارا لمصر وإسرائيل لوقف القتال، وطلبت من الجانبين الانسحاب لمسافة عشرة كيلومترات من القناة، لما يمثله قتالهما من تهديد للملاحة فى قناة السويس، فرفضت مصر ذلك الإنذار، وما يمثله من تدخل فى شأنها الداخلي. فاستيقظنا فى الصباح الباكر، من اليوم التالى، 31 أكتوبر، على هجوم إنجلترا وفرنسا، على مدينة بورسعيد!.

ورغم صغر سنى، حينها، إلا أننى أتذكر، بدقة، تفاصيل ذلك اليوم، الذى بدأ بالقصف الجوى من القوات الفرنسية والإنجليزية على مدينة الجميل، بالتزامن مع الهجوم البحرى، بواسطة الأسطول البريطاني. فهرولت إلى نافذة المنزل، ورأيت هبوط المظليين البريطانيين فى مطار الجميل، فتوجه والدى، رحمة الله عليه، إلى الراديو، وتحديداً، لإذاعة BBC، فسمعنا الإنذارات، الموجهة من خلالها، إلى أهالى بورسعيد لإخلاء مساكنهم القريبة من البحر، واللجوء إلى المخابئ، نظراً لبدء الهجوم البحرى من جهة سواحل بورسعيد. ودون اتفاق مسبق، وبغريزة حب البلاد، نظم أهالى مدينة بورسعيد أنفسهم فيما عرف باسم المقاومة الشعبية, واشتبكوا مع القوات المسلحة المعتدية، فى معارك بطولية، لصد العدوان الغاشم على مدينتهم. وفى يوم 2 نوفمبر، من العام نفسه، صدر قرار الأمم المتحدة بوقف القتال، وأتبعه الإنذار السوفيتى، يوم 3 نوفمبر، لكل من فرنسا وبريطانيا، مما دفعهما للانصياع بوقف إطلاق النار.

أتذكر يوم بدء العدوان، أننى رافقت والدى للاطمئنان على جدتى، فى شارع الثلاثينى، وفى طريقنا إليها، رأينا العشرات من شهداء بلدى، من رجال المقاومة الشعبية، على كل ناصية شارع، ورأينا دماءهم تنزف، وسلاحهم، البسيط، مازال فى أيديهم. ولما مررنا بميدان المحافظة، كانت كل المنازل محروقة، والدخان يتصاعد منها، بعدما قذفتها القوات المعتدية بالنابالم. ورغم حصار القوات البريطانية والفرنسية للمدينة، إلا أن المقاومة الشعبية كانت لهم بالمرصاد، بعملياتها الناجحة، والتى كان منها اختطاف مورهاوس، الضابط البريطانى، وابن عم الملكة، وقتل ضابط المخابرات البريطانى المسئول عن بورسعيد. وهكذا استمرت المقاومة حتى يوم 23 ديسمبر 1956، تاريخ انسحاب القوات الغازية من بورسعيد، ويومها قررت أن ألتحق بالكلية الحربية لأصبح ضابطاً، يدافع دوماً عن بلاده.

كل تلك الأحداث، وغيرها، طافت بذهنى، وأنا أدخل مدينتى الحبيبة بورسعيد، من نفس طريق دخول القوات المصرية يوم 23 ديسمبر 1956 ... أدخلها وأنا ضابطاً، حاملاً علم بلادى للاحتفال بعيد النصر، وبسالة بورسعيد ... ورددت كلمات البورسعيدية ... يجعلك عمار يا بورسعيد.



Email: sfarag.media@outlook.com