العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

باسمه، دوّن التاريخ الحديث عددا من النظريات السياسية المهمة، التى تُدرس فى العلوم السياسة، فى العالم، ومنها نظريات الواقع السياسى الحالى أساس لحل المشكلة، وسياسة الانفراج الدولى.

كيسنجر والعودة إلى الحياة السياسية
 

لواء د. سمير فرج

 9 يونيو 2022


هنرى كيسنجر، أحد أعظم الساسة الأمريكيين، فى التاريخ المعاصر، ولا أبالغ عندما أقر بأنه أحدث تغييرات جوهرية فى المفاهيم السياسية، على مستوى العالم، خاصةً إبان الحرب الباردة. ذلك الرجل، الذى اعتلى أهم المناصب السياسية والدبلوماسية، فى الإدارة الأمريكية، فى أثناء حكم الرئيسين ريتشارد نيسكون، وجيرالد فورد، وهو من وصل إلى الولايات المتحدة فى عام 1938، كلاجئ يهودى، هارب، مع عائلته، من بطش النازية فى ألمانيا، فشغل منصب مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى عام 1969، ومنصب وزير الخارجية فى عام 73، ذلك العام الذى نال فيه جائزة نوبل للسلام، بعد نجاحه فى التفاوض لوقف إطلاق النار فى فيتنام.

باسمه، دوّن التاريخ الحديث عددا من النظريات السياسية المهمة، التى تُدرس فى العلوم السياسة، فى العالم، ومنها نظريات الواقع السياسى الحالى أساس لحل المشكلة، وسياسة الانفراج الدولى، والأرض مقابل السلام، ونظرية دبلوماسية الوساطة المكوكية، القائمة على ممارساته فى إنهاء حرب أكتوبر 73، والتى طُبقت فى التفاوض على اتفاقيات باريس للسلام لإنهاء التدخل الأمريكى فى حرب فيتنام، تلك المفاوضات التى نصبه نجاحه فى إدارتها، كبطل قومى فى بلاده، إذ أنقذ الولايات المتحدة من الاستمرار فى مستنقع الحرب فى فيتنام، التى تسببت فى خسارتها لنحو 60 ألف ضابط وجندى من قواتها المسلحة. ترجع ذكرى أول اقتراب لى من هنرى كيسنجر، لأيام دراستى بكلية كمبرلى الملكية، فى إنجلترا، فى عام 1975، وتحديداً عند انتهاء الفصل الدراسى الأول، عندما كلفنا أحد أساتذتنا بها، بتوجه كل دارس منا إلى مكتبة الكلية، لاختيار أحد الكتب، وإعداد ملخص له، للعرض على باقى الدارسين، والأساتذة، فاخترت، حينها، كتاب هنرى كيسنجر، الشهير، كيف تصنع السياسة الخارجية الأمريكية، والحقيقة أننى استفدت كثيرا من أسلوبه العلمى الرصين فى توضيح كيفية بناء وتخطيط السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، ووجدت فى الكتاب منهجاً وافياً، يمكن لباقى دول العالم اتباعه، وتوظيف مبادئه لتأسيس سياستها الخارجية، كلٌ وفقا لمعطياته.

كنت قبلها قد شاركت فى حرب أكتوبر 73، وأعلم أن هنرى كيسنجر، كان أحد أدوات خطة الخداع المصرية فى تلك الحرب المجيدة، حينما طلبت القيادة العامة للقوات المسلحة، من الرئيس السادات، توصيل رسالة إلى إسرائيل، مفادها أن مصر لن تدخل فى حرب لتحرير سيناء، وأن الاتحاد السوفيتى رفض إمدادنا بأسلحة هجومية. وتنفيذا لخطة الخداع الاستراتيجى تلك، قرر الرئيس السادات طرد الخبراء السوفيت من مصر، ثم أرسل مستشاره للأمن القومى،آنذاك،الفريق محمد حافظ إسماعيل، لمقابلة هنرى كيسنجر، فى أمريكا، فى عام 1972، لإبلاغه برغبة مصر فى حل المشكلة سلمياً، باسترداد سيناء، وإعادة فتح قناة السويس، فى ظل عدم رغبتها، او بالأحرى، قدرتها على الدخول فى حرب مع إسرائيل. وبالفعل حمل الفريق إسماعيل رسالة الرئيس المصرى إلى كيسنجر، فى الولايات المتحدة، وطالبه بتدخل أمريكا لإنهاء الأزمة بالطرق السياسية والدبلوماسية. وبإبلاغ كيسنجر لإسرائيل بطلب مصر، تحقق الهدف، بخداع العدو الإسرائيلى، الذى لم يتحسب للهجوم، والانتصار المصرى فى أكتوبر 1973.

وفى هذه الأيام، ظهر كيسنجر، مجددا، على المسرح السياسى العالمى، وتحديدا فى منتدى دافوس 2022، الذى ينعقد سنوياً، فى ذلك المنتجع السويسرى الراقى، ويجمع كبار القادة والخبراء، من شتى بقاع الأرض، وفى كلمته التى ألقاها على الحضور، دعا، كيسنجر، أوكرانيا إلى القبول بالعودة إلى الوضع السابق لغزو روسيا، بغية إنهاء الغزو، أى التنازل عن دونباس وشبه جزيرة القرم، وذلك إعمالاً لنظريته بأن الأرض مقابل السلام. وفى المقابل، حذر الولايات المتحدة، من الإصرار على تركيع روسيا، الأمر الذى يرى فيه زعزعة لاستقرار أوروبا، على المدى المتوسط والبعيد. وكان رد الرئيس الأوكرانى على كيسنجر، عنيفا، فى رسالة مصورة، تهكم فيها على السياسى المخضرم، مذكراً إياه بفرار عائلته، من قبل، من النازية فى ألمانيا، وبأنه قادم من الزمن السحيق، المواكب لتلك الحقبة، فى عام 1938، ومتهماً إياه بأنه يغض بصره عن أفعال روسيا فى أوكرانيا، التى يُقتل شعبها، كل يوم، جراء القصف الروسى، ويطالبهم بتسليم أراضيهم، فى مقابل ما سماه سلاما وهميا.

كان كيسنجر قد صرح بأن المفاوضات يجب أن تبدأ خلال الشهرين المقبلين، قبل أن تجد مؤثرات خارجية، يكون من الصعب التغلب عليها، بما يسمح بتحقيق السلام والاستقرار، على جميع الأصعدة، فى ظل انعكاسات تلك الحرب على العالم بأكمله. تلك الروشتة التى يرى فيها عدد كبير من المحللين السياسيين والاستراتيجيين، تطبيقا عمليا لنظرية هنرى كيسنجر القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام، خاصة أنه ركز على أن الوضع الجيوسياسى، على مستوى العالم، سوف يتغير، بدرجة كبيرة، بعد انتهاء الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، مضيفا أنه من غير الطبيعى أن تتطابق مصالح الصين وروسيا، فى كل المشكلات المطروحة، دونما تأثير على الوضع العالمى، وهو ما دفعه لتقديم ذلك الرأى أو النصيحة، للرئيس الأوكراني.

وبعد ذلك السجال السياسى العنيف، لم تصدر الإدارة الأمريكية أى بيان للتعقيب على رأى كيسنجر، وهو نفس النهج الذى اتبعته الإدارة الروسية... وسنتابع نحن ما ستظهره لنا الأيام القادمة، من مدى قابلية نظريات هنرى كيسنجر للتنفيذ فى العصر الحالى.



Email: sfarag.media@outlook.com