العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

العملية... وشعرت وكأنها النهاية... وعلمت أن الصاروخ قد أصاب منطقة المراجل في جانب المدمرة... فانقطعت عنها الكهرباء... ومالت المدمرة وبدأت المياه تتسرب إليها من الجانب. ومنذ اللحظة الأولي وأن علي يقين بضرورة مغادرة المدمرة... إذ فقدت قدرتها ولم يتبق لنا ما نستطيع فعله لإنقاذها... فإذا بي أتلقي خبر إصابتها بالصاروخ الثاني من الجانب الآخر... ليصيب باقي أجزاء المدمرة... ورأيت المدخنة تتهاوي ومعها منصة إطلاق صواريخ الطوربيد... وبدأت المدمرة في الغرق.

قصة إغراق المدمَّرة إيلات
 

لواء د. سمير فرج

 20 أكتوبر 2017


ستظل قصة إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، يوم 21 اكتوبر 1967، من أعظم القصص التي غيرت مجري التاريخ البحري العسكري الحديث في العالم كله... فتاريخ البحرية العسكرية يؤرخ، منذ ذلك اليوم، بما قبل إغراق المدمرة إيلات، وما بعد إغراق أكبر قطعة بحرية في الأسطول الإسرائيلي أمام سواحل مدينة بورسعيد الباسلة. لقد كان لهذه العملية الفضل في تغيير تصميم وبناء القطع البحرية المتعارف عليه تاريخياً... وتغيير منهج تسليحها... فضلاً عما أسست له من تغيير في أساليب القتال البحري.

 وفي تقييم الرادارات البحرية، التي أصبحت تركز علي ضرورة اكتشاف الأهداف البحرية، صغيرة الحجم، عن بعد، حتي لا تفاجأ، قطع الأسطول، بمثل هذه الزوارق الصاروخية، وهي تطلق صواريخها، من مسافات بعيدة، وتصيبها بدقة متناهية... وهو ما دفع إلي بدء تطوير أجهزة الحرب الإلكترونية، في القطع البحرية، المنوط بها اكتشاف هذه الأهداف المعادية... مهما صغر حجمها... أو بعُدت مسافاتها. بالإضافة إلي تطوير أسلوب التشويش علي عمليات إطلاق الصواريخ »سطح-سطح»‬  وعلي إمكانية تدمير، هذه الصواريخ المعادية، قبل وصولها إلي سطح القطعة البحرية الكبيرة. ظهر، كذلك، فكر جديد لاستخدام الطائرات الهيلوكوبتر في القصف المبكر لهذه الأهداف الصغيرة المعادية، وفي التعامل مع الصواريخ »‬سطح-سطح»مبكراً، قبل إصابتها للهدف. طرأت كل هذه التغييرات علي تكتيكات القتال البحري بعد نجاح قوات البحرية المصرية في إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات...

ولنتعرف أكثر علي قصة إغراق تلك المدمرة العملاقة، التي ترقد منذ 50 عاماً في أعماق البحر المتوسط، قبالة الشواطئ المصرية، عند مدينة بورسعيد... دعونا نتصفح كتاب »‬الرحلة الأخيرة للمدمرة إيلات»، الذي كتبه المقدم الإسرائيلي إسحاق شوشان، قائد المدمرة إيلات، وشاهد العيان علي العملية المصرية لإغراقها، يوم 21 أكتوبر عام 1967... يقول المقدم شوشان عندما اقتربت المدمرة من شاطئ بورسعيد... صعدت إلي السطح لكي أتطلع إلي المدينة... كانت الشمس تغرب في الأفق خلف مدينة بورسعيد... وبدأت الأضواء تضئ مباني المدينة... ورياح شهر أكتوبر الجميلة تهل علينا... وفجأة سمعت صراخ ضابط الرادر بأن صاروخاً يقترب من المدمرة... أطلق علينا من اتجاه مدينة بورسعيد... وأدركت لحظتها أن الأمر مهيب... وهو ما دفع ضابط الرادار إلي عدم الالتزام بالإجراءات المعمول بها من حيث إبلاغي بواسطة جهاز الإنذار. ورفعت المنظار... ورأيت الصاروخ يقترب من المدمرة... مخلفاً وراءه ذيلاً أسود... ليصيب المدمرة في ثوان قليلة»‬ ويضيف شوشان »لقد أصبت في هذه العملية... وشعرت وكأنها النهاية... وعلمت أن الصاروخ قد أصاب منطقة المراجل في جانب المدمرة... فانقطعت عنها الكهرباء... ومالت المدمرة وبدأت المياه تتسرب إليها من الجانب. ومنذ اللحظة الأولي وأن علي يقين بضرورة مغادرة المدمرة... إذ فقدت قدرتها ولم يتبق لنا ما نستطيع فعله لإنقاذها... فإذا بي أتلقي خبر إصابتها بالصاروخ الثاني من الجانب الآخر... ليصيب باقي أجزاء المدمرة... ورأيت المدخنة تتهاوي ومعها منصة إطلاق صواريخ الطوربيد... وبدأت المدمرة في الغرق... فحدثت نفسي بأنه إذا كنت قد نجوت من الأول، فلن يقتلني الصاروخ الثاني... ونجح ضباط الاتصال، بعد محاولات عديدة، بإرسال إنذار إلي قائد لواء المظلات الإسرائيلي في شمال سيناء، بغرق المدمرة.

يسترسل شوشان في رواية تفاصيل هذه الليلة قائلاً :جمعت طاقم المدمرة، الذي أصيب أكثر من 95% منه بالصدمة... وشرحت لهم خطة النجاة... كان الموقف رهيباً... والظلام يخيم علي المنطقة... والمدمرة تغرق رويداً رويداً... والجرحي كُثر... وأنزلنا قوارب النجاة استعداداً لتنفيذ الخطة... فإذا بالصاروخ الثالث يصيب المدمرة من الخلف، ويقلبها علي جانبها... لتهوي بسرعة في قاع المتوسط في خلال ساعتي زمن.

ألقي المقدم شوشان نفسه في الماء، حينئذ، واضطر للسباحة علي ظهره، بسبب بزة الإنقاذ البحري... ووفقاً لما ذكر في كتابه، فقد اصطدم بشئ خلفه، وسأله »‬من أنت؟»، ولما لم يتلق جواباً، التفت ليجده واحداً من جنوده قد فارق الحياة. يستطرد شوشان »‬وهكذا تفرق طاقم المدمرة... وعددهم 199... في البحر... أصيب بعضهم... وغرق البعض الآخر ممن خارت قواهم... أو ممن لم يتمكنوا من فتح حزام الإنقاذ. كانت الصرخات عالية... تشق سكون الليل، الذي بدأ يداهمنا بضراوة... وسمعت صيحة أحد الجنود يصرخ بأن هناك صاروخاً رابعاً... إلا أنه اصطدم بالمياه... إذ لم يتبق شئ من المدمرة التي كانت قد غرقت بالفعل».

يقول المقدم شوشان أنه كان قد تلقي الأوامر، يوم 19 أكتوبر 1967، بالإبحار، بالمدمرة إيلات، إلي شاطئ بورسعيد، وعلي متنها عدد من طلاب البحرية الإسرائيلية، في رحلة تدريبية... بهدف استعراض القوة، وإثبات تواجد القوات البحرية الإسرائيلية أمام شواطئ مدينة بورسعيد. وكان عمر المدمرة إيلات 25 عاماً فقط، عندما انضمت للأسطول البحري الإسرائيلي في يونيو عام 1956، ضمن صفقة مع بريطانيا، ضمت المدمرة الثانية يافا.

ولقد أصيب المقدم شوشان بكسر في عموده الفقري، في هذه العملية... كما أدانته اللجنة التي شكلها الجيش الإسرائيلي، للتحقيق حول أسباب غرق المدمرة. فدون مذكراته عن هذه العملية، في ذلك الكتاب، محاولاً نفي مسئولية إغراق المدمرة عن نفسه، وملقياً باللوم علي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، التي عجزت عن التوصل إلي معلومات عن العملية، قبل وقوعها، قائلاً »‬إنه لمن الغباء عدم توقع محاولات المصريين للانتقام».
وبإغراق المدمرة إيلات، باستخدام لنشات صواريخ صغيرة... تغير فكر البحرية العسكرية في العالم بأسره... إذ توقفت جميع الدول عن بناء القطع البحرية الكبيرة، مثل حاملات الطائرات، والطرادات، والمدمرات... وبدأ الاعتماد، تدريجياً، علي الفرقاطات صغيرة الحجم، ولنشات الصواريخ... وبدأ تطوير الرادارات البحرية، لاكتشاف الأهداف من ارتفاع أربعة أمتار عن سطح البحر. إضافة إلي التغيير الذي طرأ علي تكتيكات وأساليب القتال البحري، في كل المدارس البحرية حول العالم، كما تغير فكر تشكيل مجموعات القتال البحرية (Naval Task Force)، لتكون قادرة، بذلك التكوين الجديد، وبالتالي بتشكيل الإبحار المتطور، علي التصدي لهذا السلاح المرعب الجديد بعد ما حققه المصريون من معجزة، بتدمير هذه المدمرة العملاقة بواسطة صواريخ صغيرة.

وعندما نقص تفاصيل تلك المعركة العظيمة، لا ننسي ذكر النقيب أحمد شاكر، والنقيب لطفي جاد الله، قائدي لنشات الصواريخ، اللذين نجحا، في إغراق المدمرة، وإتمام العملية بنجاح. كذلك لا ننسي معاونيهم الملازم أول السيد عبد المجيد، والملازم أول حسن حسني، والضابط البحري سعد السيد، ومعهم 25 جندياً مصرياً، هم أطقم هذه اللنشات. ولا يفوتنا أن نترحم علي الشهيد الرقيب محمد فوزي البرقوقي، الذي ضحي بحياته أثناء تلك العملية. فما كان من القوات البحرية المصرية إلا أن خلدت ذكري هذه الملحمة، باعتبار يوم 21 أكتوبر عيداً لها.

ستظل مصر دائماً فخورة بأبنائها... ورجالها... الأبطال الذين سطروا بعملهم وبشجاعتهم... سطوراً مضيئة في تاريخ العسكرية علي مستوي العالم... محققين لبلادهم عزتها وكرامتها، وسطروا ملحمة جديدة في سجل البحرية المصرية ليخلدها، ويتعلم منها، العالم كله.



Email: sfarag.media@outlook.com