العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

ساعتان أخريان، يشرح خلالهما المحاضر الإنجليزي، ويعرض الصور والخرائط، التى توضح كيفية تنفيذ المصريين أساليب، ومبادئ الدفاع العسكري، التى فشلت أمامها جميع محاولات الاختراق الإسرائيلى لمدة ثلاثة أيام.

«أم كتــاف»
 

لواء د. سمير فرج

 25 يناير 2018


انطلق صوت البروجى فى أرجاء الكلية الحربية، معلناً بدء طابور التمام، فى مساء يوم الجمعة، بعد عودتنا من إجازة نهاية الأسبوع ... هرولنا جميعاً إلى أرض الطابور، مصطفين كعادتنا، وفوجئنا بالسيد كبير معلمى الكلية، يبلغنا قرار بدء امتحانات التخرج اعتباراً من يوم غد، السبت، وتنتهى يوم الخميس التالي، ليقام حفل تخرجنا فى ذات اليوم. ويعتبر التخرج المبكر، إجراء تتبعه جميع جيوش دول العالم، عندما تكون الدول فى حالة حرب، وتقتضى الضرورة تعويض النقص العددى فى صفوف الضباط... وهو ما كان ينطبق على الحالة المصرية، آنذاك، إذ كانت القوات المسلحة المصرية تشارك فى اليمن، لتأييد النظام الجمهورى الجديد فيها.

جاء يوم التخرج، بما له وما عليه، وجاء توزيعى على سلاح المشاه، الذى نطلق عليه فى الجيش، سادة المعارك، فكنت من أسعد الخريجين بانضمامى لصفوف الضباط المقاتلين، وبعد أسبوع من إجازة التخرج، تم توزيعنا على الوحدات المقاتلة فى القوات المسلحة، وكنت من المحظوظين الذين تم توزيعهم للخدمة بإحدى كتائب المشاة فى سيناء، للدفاع عن حدود مصر الشرقية. تجمعت مع زملائي، المنضمين لنفس الوحدة، فى محطة مصر، لنستقل القطار المتجه إلى العريش، وكانت القطارات المصرية، فى ذلك الوقت، غاية فى الفخامة والأناقة، وكانت الخدمة بها على أعلى المستويات... انطلق القطار فى رحلته، عابراً مدينة القنطرة شرق، ثم كوبرى الفردان، وصولاً إلى أرض سيناء الحبيبة، برمالها الصفراء، وصحرائها الشاسعة، الخالية من مظاهر المعيشة... ووصلنا إلى محطة الأبطال، وهى المحطة العسكرية للقوات المسلحة فى العريش، واستقبلتنا الموسيقى العسكرية، تكريماً لنا باعتبارنا الدفعة الجديدة من الضباط من مختلف الأسلحة. فور الانتهاء من الاستقبال، استقلينا المركبات العسكرية، إلى مقر القيادة، حيث استقبلنا اللواء أحمد إسماعيل، الذى ترقى فى المناصب، فيما بعد، حتى رتبة الفريق، وكان وزيراً للحربية فى أثناء حرب أكتوبر 73.

كان لقاؤنا مع سيادته ممتعاً، وتحركنا، فور الانتهاء منه، إلى مواقعنا الدفاعية، وكان نصيبى منها موقع «أم كتاف» أو «أبو عجيلة» كما هو معروف عند البعض، والذى يمثل خط الدفاع الأول على الحدود بين مصر، والقوات الإسرائيلية، وعليه، مباشرة، الأسلاك الشائكة التى تفصل بين الجانبين المصري، والإسرائيلي. واستقرت فصيلتى الصغيرة، وقوامها ثلاثون جندياً، على «جبل مكسر الفناجيل» وهو عبارة عن أرض غرود رملية، يصعب عبورها بكل أنواع العربات، لذلك ارتكزت دفاعات الكتيبة فوق هذا الجبل، ومكثت بهذا الموقع عدة أشهر، قبل أن تتحرك وحدتى بالكامل إلى اليمن. ولقد اجتزت تلك الفترة، فى هذا الموقع، وأنا مدين لهما بالكثير مما تعلمته فى حياتى العسكرية؛ فلقد كان اختيار الموقع مثالياً، وتجهيز الدفاع عليه أكثر من رائع، فأصقلت تجربتى العملية فيه، كل ما تعلمته من نظريات فى الحياة الدراسية. ومرت السنون، والتحقت بكلية كمبرلى الملكية، بإنجلترا... أعرق الكليات العسكرية فى العالم، وأقدمها، وفيها يُدرس العلم العسكري، والاستراتيجي، وعلوم الأمن القومي. أذكر أن الفصل الدراسى الأول بها، كان مخصصاً لدراسة مبادئ ومفاهيم الحرب عبر التاريخ، إضافة إلى مبادئ الاستراتيجية والأمن القومي. بينما خُصص الفصل الدراسى الثاني، لدراسة العمليات الدفاعية. وبدأ اليوم الأول، من الفصل الدراسى الثاني، بمحاضرة نظرية، لمدة ساعتين، عن أسس تنظيم الدفاع، وأشكاله، ثم تلا تلك المحاضرة عرض لإحدى المعارك العسكرية، التى طبق فيها المدافع كل تلك المبادئ، التى تعلمناها للتو، بدقة متناهية... وإذ بهذه المعركة، التى تعرض على الدارسين، الوافدين من مختلف أنحاء العالم، هى «معركة أم كتاف» فى أثناء حرب 56، التى نجحت فيها القوات المصرية، فى صد الهجوم الإسرائيلي، لمدة ثلاثة أيام متتالية، ولم يتمكن خلالها من اختراق الدفاعات المصرية. تلك المعركة التى قادها من الجانب الإسرائيلي، موشى ديان، الذى أصبح، فيما بعد، وزيراً للدفاع الإسرائيلي، واعتبروه أسطورتهم العسكرية عبر التاريخ.

ساعتان أخريان، يشرح خلالهما المحاضر الإنجليزي، ويعرض الصور والخرائط، التى توضح كيفية تنفيذ المصريين أساليب، ومبادئ الدفاع العسكري، التى فشلت أمامها جميع محاولات الاختراق الإسرائيلى لمدة ثلاثة أيام، حتى تمكنوا فى اليوم الرابع من الاقتحام، لتفاجأ قواتهم، بانسحاب القوات المصرية، فى الليلة السابقة، منفذين بذلك معركة ارتداد دقيقة، كما وردت فى الكتب والمراجع العسكرية الكبرى. وشعرت بالعزة وأنا أرى موقعى الصغير فى «جبل مكسر الفناجيل» مضرباً للمثل فى البطولات العسكرية... وملأنى الفخر، بانتمائى لهذه المؤسسة العسكرية العريقة... وشعرت بالوطنية، وأنا أقف بين 180ضابطاً، يمثلون 44 دولة من مختلف دول العالم، لأقول إننى شرُفت بخدمة بلادى فى هذا الموقع.

لم تكن تلك المرة الوحيدة، التى أشهد فيها مثل هذا الموقف، فقد عاصرته من قبل عندما زرت كلية كرانويل الجوية لأركان الحرب، فى إنجلترا، وكانت معركة المنصورة الجوية، تُدرس لجميع طلاب العالم، باعتبارها أعظم المعارك الجوية فى العالم. تلك المعركة التى دارت فى سماء المنصورة، يوم 14 أكتوبر 1973، بين الجانبين المصرى والإسرائيلي، وتمكنت خلالها قواتنا الجوية من بدحض قوات العدو، بالرغم من إمكاناتها المتقدمة نسبياً، فى مدة خمسين دقيقة، لتُسجل تلك المعركة الجوية بأنها الأطول فى التاريخ العسكري. فاستحق ذلك اليوم أن يُخلد باعتباره عيداً سنوياً لقواتنا الجوية.

وقد عنيت بهذا العرض المبسط، أن أوضح، للأجيال الحديثة، صورا من عظمة الجيش المصرى عبر التاريخ، والتى يتخذ منها الفكر العسكرى العالمي، دروساً وعبراً، مثلما استلهم الكثير من الدروس من حرب أكتوبر 73، بعدما ابتكرت مصر معجزتها فى اقتحام الموانع المائية، وحطمت أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر. واليوم، عندما يصنف الجيش المصري، فى الترتيب العاشر عالمياً، فذلك مدعاة للفخر، والإحساس بالأمان.



Email: sfarag.media@outlook.com