العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

كان اختيار العقيد أركان حرب صلاح فهمي، لهذا اليوم، لبدء الهجوم على الجبهتين، المصرية والسورية، غايةً في الدقة، فلم يتوقع العدو قيام الجيش المصري بأي عمليات هجومية في شهر رمضان، شهر الصوم والعبادات، فكان اختيار هذا اليوم أحد عناصر المفاجأة لإسرائيل في هذه الحرب.

صباح العاشر من رمضان من غرفة العمليات
 

لواء د. سمير فرج

 17 مايو 2019


في كل عام، حين يحل علينا شهر رمضان الكريم، تحل معه أجمل، وأحلى، الذكريات، وأهمها تلك الخاصةً بيوم العاشر من رمضان، الموافق لذكرى النصر العظيم، ذكرى انتصارات أكتوبر ٧٣، التي لازلت أذكرها، وكأنها البارحة …

بدأ الصباح، ونحن في غرفة العمليات الرئيسية، للقوات المسلحة المصرية، نستعد ليوم الهجوم، وعبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف … هذا اليوم، وهذه اللحظة، التي انتظرناها طويلاً، بعد هزيمة يونيو٦٧، التي فقدت فيها القوات المسلحة أسلحتها وعتادها على أرض سيناء، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية للقناة، فكانت أحلك لحظة في تاريخ مصر، عندما ارتفع علم العدو الإسرائيلي، على ضفة قناة السويس المصرية.

بدأت، بعدها، حرب الاستنزاف، لمدة سبع سنوات، تم خلالها إعادة تنظيم الجيش، وإعادة تسليحه وتدريبه، وخاضت القوات المسلحة معارك على ضفاف القناة، تعلمنا، خلالها، الكثير، وتم تهجير ثلاث مدن، بأكملهم؛ بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وبدأ الإعداد لخطة العبور، واقتحام خط بارليف، واستعادة الأرض.

تحمل الشعب المصري الكثير، رافعاً شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وشعار “مصر أولاً”، فقد توقفت جميع مشروعات البنية الأساسية، ووجهت جميع الموارد لصالح المجهود الحربي، حتى أن الجندي المجند ظل يخدم في القوات المسلحة، أكثر من سبع سنوات، حتى حرب أكتوبر ٧٣، فقدنا الكثير من الشهداء، خلال حرب الاستنزاف، من العسكريين ومن المدنيين، بناة حائط الصواريخ ومن مدن القناة … وتحملت مصر كل ذلك، انتظاراً لهذا اليوم المشهود، يوم النصر، وتحرير الأرض، ورفع العلم المصري على أرض الفيروز … إنه يوم العاشر من رمضان.

كان اختيار العقيد أركان حرب صلاح فهمي، لهذا اليوم، لبدء الهجوم على الجبهتين، المصرية والسورية، غايةً في الدقة، فلم يتوقع العدو قيام الجيش المصري بأي عمليات هجومية في شهر رمضان، شهر الصوم والعبادات، فكان اختيار هذا اليوم أحد عناصر المفاجأة لإسرائيل في هذه الحرب.

حل صباح العاشر من رمضان، ونحن في مركز القيادة، الذي كنا قد بدأنا العمل فيه قبل عدة أيام، تحت شعار “مشروع تدريبي”، لاختبار قدرة وإمكانات وأدوات ومعدات المركز، قبل البدء في قيادة القوات على الجبهة المصرية لشن حرب التحرير. بدأنا برفع خرائط المشروع التدريبي من على الحوائط، واستبدالها بخرائط “الخطة جرانيت المعدلة”، لاقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف الإسرائيلي … وكان الموقف عصيباً، فبعضنا غير مصدق، أحقاً، وبعد سبع سنوات، سنحقق الحلم ونستعيد الأرض؟! أم سيصدر الأمر “كما كنت”، أي إيقاف العمليات الهجومية؟!

ولكن مع مرور الوقت، بدت الأمور تسير مثل التخطيط، فهناك مجموعات، خلف خطوط العدو، اندفعت إلى عمق سيناء، لمراقبة تحركات الاحتياطيات الإسرائيلية، حال تقدمها نحو قناة السويس، لنجدة قوات خط بارليف. وللاتصال بهذه المجموعات، تم استخدام الشفرة، بواسطة جنود، تتحدث اللهجة النوبية، تم تدريبهم عليها من قبل، حتى لا يفهم العدو ما يحدث، ووصلت هذه العناصر إلى مواقعها، في عمق سيناء، وبدأت الأحداث تتوالى.

بدأنا في تلقي البلاغات، الواحد تلو الآخر، عن استعداد القوات، كل في مكانه، لقد بدأ نزول الضفادع البشرية إلى قناة السويس، لإغلاق أنابيب النابالم، التي أعدها العدو الإسرائيلي لتحويل القناة إلى جهنم مشتعلة، لإحراق القوات المصرية القائمة بالهجوم، وجاء التمام بتنفيذ كل المهام.

لا أنكر أنني، وكثير من القادة، كنّا في ذهول، غير مصدقين، أن هذه اللحظة قد حانت، وأننا نعيشها حقاً وصدقاً، ولكنها تأكدت، عندما رصدت شاشات الرادار، عبور ٢٢٠ من طائرتنا المقاتلة، لقناة السويس، لتصيب أهدافها في الضربة الجوية، ليبدأ، بعدها، تمهيد نيران المدفعية، بطول خط القناة بالكامل، استعداداً لعبور خمس فرق مشاة، في ١٢ موجة، بالقوارب، لتصل إلى الضفة الأخرى للقناة وتهاجم خط بارليف، وكانت من أجمل البلاغات التي نتلقاها، هي سقوط نقاط خط بارليف، النقطة تلو الأخرى، باندفاع قواتنا إلى عمق سيناء. ولم يأتي مساء اليوم، إلا و٢٠٠ ألف جندي مصري على أرض سيناء الحبيبة.

ومن اللحظات المؤثرة التي لازلت اذكرها، أنه بعد ساعة واحدة من تمام الضربة الجوية، قام اللواء الجمسي من مكانه، وهمس في أذن الفريق الشاذلي، رئيس الأركان، ثم توجها معاً ليحدثا المشير أحمد إسماعيل في أمر قبل أن يعودا إلى مكانهما، فطلب المشير أحمد إسماعيل، على أثر ذلك، أن يحدث الرئيس السادات على انفراد، ثم علمنا أنه كان يبلغه نبأ استشهاد شقيقه الطيار عاطف السادات، والذي كان أصغر وأقرب الأخوة إلى قلبه، فعاد الرئيس السادات للغرفة، بعدها بدقيقة، ليقول “أخي مثله كباقي أبناء مصر … فداءً للوطن”.

وكان أسعد خبر سمعته يوم العاشر من رمضان، ومع بدء الهجوم، هو تلك الإشارة، التي التقطتها المخابرات المصرية، وهي رسالة مفتوحة، غير مشفرة، لضمان سرعة الوصول، من قائد الطيران الإسرائيلي إلى جميع طياريه، يأمرهم بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة ١٥ كم، وهي مدى حائط الصواريخ المصري! وقتها أيقنت أن الهجوم سوف ينجح، لأن القوات الجوية الإسرائيلية، التي طالما تغنوا بقدراتها، وأسموها “اليد الطولي”، قد خرجت من المعركة، وحُيدت قدراتها. ومع حلول الليل تم إقامة الكباري المصرية، لكي تعبر عليها الدبابات المصرية، وعناصر المدفعية، ومراكز القيادة، وجاء صباح الحادي عشر من رمضان، وهناك ربع مليون جندي مصري، بأسلحتهم ودباباتهم ومدفعيتهم وكافة عتادهم، على الضفة الشرقية للقناة، يدمرون الاحتياطات الإسرائيلية المدرعة، التي حاولت تدمير قوات العبور.

واكتملت ملحمة النصر، وتم استعادة سيناء الحبيبة، ورفع العلم المصري، مزيناً بدماء أبطال الجيش المصري العظيم، ليرفرف عالياً، وحفرت هذه الملحمة الرائعة بأحرف من نور في تاريخ مصر العظيم.



Email: sfarag.media@outlook.com