العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

خلص الخبراء العسكريين إلى أنه بالرغم من التفوق العددي، والنوعي، للطائرات الإسرائيلية، إلا أن خبرة المصريين، وكفاءتهم في التغلب على الطائرات والأسلحة الإلكترونية الإسرائيلية المضادة، حسم المعركة لصالحهم.

معركة المنصورة الجوية 14 أكتوبر 73 من منصة أكاديمية براكنل البريطانية
 

لواء د. سمير فرج

 16 أكتوبر 2019


لم تكد أصوات المدافع تتوقف، ورائحة البارود تنقشع من فوق جبال سيناء، بعد حرب أكتوبر 73، التي حققت فيها قواتنا المسلحة نصراً عظيماً، حتى أصدر الرئيس السادات، قراره بالانفتاح العلمي، العسكري، على دول الغرب، بعد توقف امتد لأكثر من عشرين عاماً، منذ ثورة 52، نتيجة فرض الدول الغربية شروطاً لتقييد حجم، وتسليح، الجيش المصري، وهي الشروط التي رفضها، بالطبع، الرئيس عبد الناصر، لتعارضها مع مبادئ الثورة، بإنشاء جيش وطني قوي. وبناءً عليه اتجه، مباشرة، إلى الاتحاد السوفيتي، وعقد صفقة الأسلحة التشيكية الشهيرة، ومن يومها أصبح الجيش المصري يتبع العقيدة القتالية الشرقية، فكراً، وتسليحاً، وأسلوباً للقتال.

أعلى نصر أكتوبر المجيد، من قدرة القوات المسلحة المصرية، على فرض شروطها، واختيار ما يناسبها، فقرر الرئيس السادات، ضرورة دراسة العقيدة القتالية الغربية، التي يتبعها العدو الإسرائيلي، بإرسال القادة، والضباط، إلى المعاهد العسكرية العليا في الغرب، وتحددت أول بعثة إلى كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا، ونظراً لحصولي على المركز الأول في التخرج، من كلية الأركان حرب المصرية، فقد تم اختياري لحضور دورة الأركان حرب في إنجلترا. وخلال عام ونصف من الدراسة، تعرفنا على الفكر العسكري الغربي، وتعمقنا في دراسته، نظرياً، وعملياً.

كان من ضمن مناهج الدراسة، العملية، أن تم تنظيم مشروع تدريبي، مشترك، مع كلية الأركان حرب الجوية البريطانية، في براكنل، لمدة أسبوع، لنتعرف على أساليب قتال القوات الجوية، وآليات التعاون، مع القوات البرية، أثناء عمليات القتال. بدأت المحاضرات بالتعرف على نشأة، وتطور، القوات الجوية، إضافة إلى علم الطيران، وتطوره. بينما خصص جزء من المحاضرات، لدراسة أهم المعارك الجوية، والدروس المستفادة منها، نجاحاً أو إخفاقاً.

فإذا بي أفجأ بأن ظهر على شاشة العرض، أول وأهم معركة جوية في العصر الحديث، وهي “معركة المنصورة الجوية”، فشعرت بمزيد من الفخر، وأنا استمع إلى نظرة الغرب، لهذه المعركة، التي تعرضها أكبر كلية متخصصة في الطيران الحربي، في العالم … تلك المعركة التي شهدتها سماء الدلتا المصرية، يوم 14 أكتوبر 73، فوق مطار المنصورة العسكري، بين 200 طائرة حربية؛ 120 منهم، من أنواع الفانتوم وسكاي هوك والميراج 2000، تابعة للعدو الإسرائيلي، و80 طائرة حربية مصرية، من طراز ميج 21، وسوخوي 7، والميراج 2000. دارت هذه المعركة لمدة 53 دقيقة، لتسجل كأطول، وأعنف، وأشرس، معركة جوية في التاريخ العسكري الحديث، ورغم التفوق العددي، والنوعي، لطيران العدو، إلا أن حجم الخسائر، بين صفوفهم، وصلت إلى 17 طائرة إسرائيلية، بينما خسرت مصر خمس طائرات، اثنان منهم بسبب نفاذ الوقود.

حظيت هذه المعركة باهتمام الدوائر العلمية، حول العالم، لعدة أسباب؛ أولها، لأنها كانت المرة الأولى التي يدور فيها قتال جوي، مباشر، بين طائرات روسية الصنع، وطائرات غربية الصنع. والسبب الثاني أنها أول معركة جوية تستخدم فيها أسلحة إلكترونية حديثة، والأسلحة الإلكترونية المضادة، خصوصاً التشويش على رادارات الطائرات من كلا الجانبين. أما السبب الثالث فلأنها أبرزت كفاءة عناصر التوجيه الأرضي، في غرف عمليات المطارات المصرية والإسرائيلية، كما بزغ فيها كفاءة الأطقم الأرضية، خاصة على الجانب المصري، التي نجحت، مع هذا الكم من الطائرات، في الجو، طوال مدة المعركة، في إتمام مهمتها على أكمل وجه؛ مثل إعادة تزويد الطائرات المصرية بالوقود، وإعادة تسليحها، والتأكد من سلامة الفنية للطائرات. كما كان لاشتراك 4 مطارات حربية، مصرية، في هذه المعركة، الفضل في رفع تقييم القوات المصرية، لصعوبة تنسيق خروج الطائرات من تلك المطارات، وتوقيتات الاشتباك الجوي، والعودة بسلام، خاصة أن معظم الطائرات في الدلتا متقاربة، بعكس الطائرات الإسرائيلية، فكانت بعيدة، الأمر الذي يسهل السيطرة عليها.

وكان للخبرة، المتراكمة، للقوات الجوية المصرية، في التعامل مع قوات العدو، خلال حرب الاستنزاف، الفضل في التفوق الفكري، في فهم لغة الخصم، حيث كان الفكر الإسرائيلي الجوي، يعتمد، دوماً، على الهجوم من خلال ثلاث موجات؛ تكون مهمة الموجة الأولى، إغراء المقاتلات المصرية، واستدراجهم لاتجاهات بعيدة عن الأهداف المكلفين بالدفاع عنها، أما الموجة الثانية فكانت هي القوة الأساسية، المكلفة بالهجوم على الرادارات، ووحدات الدفاع الجوي المصري، من الصواريخ والمدفعية، بينما تختص الموجة الثالثة بضرب الأهداف المحددة لها، كتدمير القواعد العسكرية المصرية، لإفقاد القوات الجوية المصرية توازنها، وقدراتها القتالية.

بدأت “معركة المنصورة الجوية” في الساعة الثالثة وخمس عشر دقيقة، عندما أنذرت مواقع الرادارات المصرية، على ساحل الدلتا، باقتراب 20 طائرة، من طراز الفانتوم، من ناحية البحر المتوسط، لتجنب حائط الصواريخ المصري، على الضفة الغربية لقناة السويس. فقررت قيادة القوات الجوية المصرية عدم اعتراض الموجة الأولى، مما أفشل مهمتها في جذب المقاتلات المصرية، فعادت أدراجها، عبر البحر المتوسط، إلى القواعد الجوية الإسرائيلية. وفي الساعة الثالثة والنصف، أظهرت شاشات الرادارات المصرية، وجود 60 طائرة قادمة من ثلاث اتجاهات، من ناحية البحر؛ بورسعيد، وبلطيم، ودمياط، فأقلعت 16 طائرة، ميج 21، من مطار المنصورة الجوي، ثم 8 طائرات من قاعدة طنطا الجوية، للتصدي لها. أعقب ذلك، بثمان دقائق جاء، إنذار للقوات الجوية، باقتراب 16 طائرة إسرائيلية، قادمة من اتجاه البحر المتوسط، على ارتفاع منخفض، وبدأ القتال الجوي، فوق سماء دلتا نهر النيل، ليبدأ معه تدفق باقي الطائرات الإسرائيلية، واشتعلت السماء المصرية بأكبر معركة جوية في التاريخ، استخدم فيها الجانبان، أحدث ما يملكانه في ترساناتهم الجوية، سواء المقاتلات، أو أجهزة التشويش اللاسلكي، والراداري.

وبعد محاضرة، استمرت لأكثر من ساعتين، تم فيها حساب توقيتات إقلاع الطائرات من المطارات الإسرائيلية، ووصولها للأهداف فوق دلتا نهر النيل، والإجراءات المضادة من القوات الجوية المصرية، خلص الخبراء العسكريين إلى أنه بالرغم من التفوق العددي، والنوعي، للطائرات الإسرائيلية، إلا أن خبرة المصريين، وكفاءتهم في التغلب على الطائرات والأسلحة الإلكترونية الإسرائيلية المضادة، حسم المعركة لصالحهم … وهكذا استحق يوم 14 أكتوبر، أن يخلد كعيد القوات الجوية المصرية، التي تفتخر بأبنائها، ليس في مصر، فقط، ولكن أمام العالم كله.



Email: sfarag.media@outlook.com