العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

والحمد لله أننا أمضينا أربعة أيام نعيش فى الإفطار والسحور على الزبيب المنقوع فى المياه حتى تم فتح الطريق وفك الحصار.

الصيام والحرب
 

لواء د. سمير فرج

 30 مارس 2024


فى كل تجربة من تجارب الحروب الأربع التى شاركت بها دفاعًا عن أرض وطننا الغالى، كان لشهر رمضان الكريم ذكريات مختلفة فى كل واحدة من تلك الحروب الأربع، وجميعها ذكريات لا تُنسى، وتعاودنى كل عام كلما هل علينا الشهر الكريم.

أولى هذه الذكريات فى حرب اليمن التى اشتركت فيها بعد تخرجى فى الكلية الحربية بأشهر قليلة، كان عمرى وقتئذ لا يتجاوز الثامنة عشرة، وقد بقيت فى اليمن ثلاث سنوات كاملة.

كان أول رمضان يمر علىَّ هناك بعد وصولى بفترة قصيرة عام 1964 ليتم تكليفى وأنا قائد فصيلة بالهجوم على جبل منعزل.

وبالفعل بدأت المهمة مع فصيلتى لنصل إلى قمة الجبل مساءً، وما كادت ساعات الليل تنتهى ويبدأ الصباح حتى بدأ هجوم العناصر اليمنية على موقعى لتبدأ المعركة التى استمرت لثلاث ساعات، تمكنّا فيها من صد هجوم اليمنيين، كما فقدنا فيها أول شهيد وكان رقيب الفصيلة.

لم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى فوجئنا بأننا أصبحنا محاصرين من اليمنيين، وكان تعيين القتال الذى معنا قد بدأ فى النفاد بالفعل، ففى اليوم الأول قمنا بتقسيم التعيين، الذى لم يكن سوى قالب فولية، على قسمين جزء للإفطار وجزء للسحور، ولم نكن نعلم ماذا سنأكل فى الأيام التالية، ونحن مُحاصَرون، بعد أن أبلغتنا القيادة أن فك الحصار لن يتم قبل ثلاثة أيام!.

نظرت حولى، فلم أجد إلا الجبال الشاهقة التى تملؤها الصخور، وفجأة، وبينما أحاول البحث عن أى بارقة أمل، ظهرت لى قرية صغيرة يمنية أسفل الوادى، فما كان منى إلا أن قمت بتعيين مراقب لمعرفة ما يدور بداخلها، وبعد عدة ساعات أبلغنى أن القرية قد هجرها أهلها نتيجة أعمال القتال وضرب المدفعية والطيران، لم يكن أمامى حل سوى إرسال دورية قتال للقرية لعلى أجد ما يمكن أن أطعم به جنودى.

وبالفعل ذهبت الدورية إلى القرية، ووفرت لها كل وسائل التأمين والجهاز اللاسلكى، وعندما وصلت الدورية هناك أبلغونى بأن القرية مهجورة تمامًا، وقد غادرها أهلها، وأخذوا معهم كل شىء، ولكن الدورية فوجئت بوجود الزبيب المخزن، فالقرية كانت تزرع العنب، وهو من أجود ما تشتهر اليمن بزراعته طبقًا للمقولة الشهيرة بلح الشام ولا عنب اليمن.

وعادت الدورية تحمل معها عدة أجولة من العنب والمياه، وبالطبع تفنن جنودى بوضع الزبيب فى المياه لمدة أربع ساعات، بعدها تجد وجبة رائعة للإفطار والسحور. والحمد لله أننا أمضينا أربعة أيام نعيش فى الإفطار والسحور على الزبيب المنقوع فى المياه حتى تم فتح الطريق وفك الحصار.

وفى كل عام عندما يأتى رمضان، أتذكر أن الزبيب أنقذنا من الموت جوعًا فوق جبال اليمن.

أما الذكرى الثانية من الصيام والحرب، والتى لا أزال أتذكرها تمامًا، فكانت خلال حرب الاستنزاف، بعد حرب يونيو 67، وخلال ست سنوات كان موقعى فى منطقة جنوب البحيرات على قناة السويس، والذى يبعد عن خط بارليف مسافة 200 متر، هى عرض قناة السويس، حيث كانت الاشتباكات مستمرة مع العدو الإسرائيلى طوال السنوات الست.

وفى رمضان كان العدو الإسرائيلى يفاجئنا بشىء مختلف كل يوم، محاولًا استغلال معرفته بتوقيت الإفطار بعد أذان المغرب، لذلك كان يتعمد اختبار بدء الاشتباك بالنيران وقت الغروب.

وفى اليوم الأول تمكنّا من كشف حيلة العدو، ولذلك لم نكن نوزع وجبة الإفطار إلا بعد المغرب بساعة حتى تظل ساخنة لأن العدو الإسرائيلى كان يبدأ الاشتباك كل يوم مع بدء غروب الشمس.

ولذلك قمت بتقسيم جنودى إلى مجموعتين، الأولى تنفذ الاشتباك مع العدو الإسرائيلى، والثانية تستعد للإفطار بعد ساعة، ثم تتم المناوبة بين المجموعتين، كذلك أرسلت أحد جنودى إلى القاهرة لشراء التمور، وكنت أوزع التمر عليهم فور الأذان طبقًا للسنة الإسلامية حتى يتم الإفطار بعدها بساعة.

أما فى المساء فكان نصيب موقعى من ضربات النابالم مع توقيت السحور، وهى الهجمات التى كانت تمتد إلى أكثر من ساعتين، خاصة أننا كنا نمضى وقتًا طويلًا فى إطفاء النابالم المشتعل مع كل أجزاء الموقع، وعلى هذا المنوال من المعارك مرت السنوات الست من حرب الاستنزاف.

أما الذكرى الأجمل فى حياتى عن شهر رمضان فكانت يوم العاشر من رمضان الموافق السادس من أكتوبر 1973، وكنت فى مركز القيادة الرئيسى للقوات المسلحة، وأتذكر يومها عندما وصل الرئيس السادات فى الظهر، ودخل المركز خلفه بعض الجنود، يحملون صوانى عليها سندوتشات وعصائر، وتحدث من داخل المركز فى الميكروفون لكل القادة والضباط والجنود ليتم إبلاغ كل القوات التى ستعبر اليوم قناة السويس وتهاجم خط بارليف بأنه حصل على فتوى من المفتى بجواز الإفطار لنا لأننا نحارب لاسترداد الأرض، وقام الجنود بالمرور علينا لتوزيع سندوتشات وعصائر، ولكننا وضعناها فى الدرج.

ويشهد الله أن أيًّا منّا لم يتناول حتى رشفة مياه، حتى عندما جاء موعد الإفطار، فالجميع كان فى لهفة وشوق لهذا اليوم الذى انتظرناه منذ ست سنوات كاملة، وفى الثامنة مساء عندما جاءت المجموعة الثانية التى نتبادل معها الخدمة، والتى ستقوم بالعمل خلال الليل، كانت أول مرة لنا جميعًا نأخذ رشفة مياه.

وبعد الحرب جمعنى لقاء مع مجموعة الأصدقاء من كلية القادة والأركان التى كنا ندرس بها، وكنا قد تخرجنا قبل الحرب مباشرة، وهم محسن السلاوى وأحمد سعودى وكمال عامر، وأخذنا نتذكر معًا أحداث الحرب، كل منّا يحكى عما حدث فى موقعه وماذا تم، وكانت المفاجأة أن الجبهة بالكامل لم يتناول فيها أى جندى أو ضابط أى نوع من الطعام إلا بعد ثلاثة أيام، فقد كانت فرحة العبور والنصر هى المسيطرة على الكل، وكانت رشفة المياه هى الزاد الوحيد للجميع بعد أذان المغرب حتى تطفئ لهيب حلاوة النصر، خاصة أنه عندما تم فتح الكبارى كانت الأولوية الأولى لعبور الدبابات، وبعدها المدفعية، وبعدها عربات الذخيرة، وأخيرًا عربات الطعام.

ولكن فرحة الجميع بنجاح العبور والنصر وتدمير خط بارليف، من جهة جعلت الجميع يتناسى الإفطار والسحور فى شهر رمضان الكريم لكى نحقق النصر العظيم لمصرنا الغالية ونستعيد أرض سيناء.



Email: sfarag.media@outlook.com