العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

ظهرت مارجريت تاتشر على السطح ... ابنة البقال الإنجليزي ... التي كانت تعيش في إحدى القرى الإنجليزية البسيطة ... وتتناوب مع والدها في العمل بمحل البقالة.

 مارجريت تاتشر .. وأنا

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

لكل منا في حياته ... شخصيات أثرت في تفكيره ... وسلوكه ... وشخصيته ... وأصبحت له مثلاً في حياته. وهو ما كان عندما ذهبت إلى الدراسة في إنجلترا، وأنا ضابط صغير، برتبة رائد ... ابن بورسعيد، الذي شهد العدوان الثلاثي وهو طفل صغير ... شاهدت المظلات البريطانية تهبط في مطار الجميل، ليبدأ، معها، الهجوم الإنجليزي-الفرنسي على مدينتي ... ونحن، وكل أهالي مدينة بورسعيد، محبوسون تحت الأرض لمدة ثلاثة أيام، حتى 2 نوفمبر 1956، تاريخ وقف إطلاق النار.

لم يمر على وقف إطلاق النار أكثر من ساعة، حتى أخذني والدي معه، للذهاب إلى جدتي، في شارع الثلاثيني، للاطمئنان عليها. وفي الطريق، وفي كل ناحية منه، كان هناك شهيد ... أو شهيدين ... دماءه على الأرض ... وخوذته بجانبه ... وبندقيته النصف آلي مازالت في يده. وأمرني والدي بالركوض فوراً إلى منزلنا، وإحضار كل ما يتسنى لي من الملايات، لتغطية شهدائنا ... ونفذ مخزون الأغطية والملايات والمفارش في المنزل، ولم ينته عدد الشهداء من جنودنا البواسل.

ومر، من أمامنا، محافظ بورسعيد ... في سيارة جيب إنجليزي، بصحبة عدد من القوات الإنجليزية ... والعلم الأبيض يرفرف فوق السيارة، معلناً استسلام المدينة الباسلة. وفُرض حظر التجوال حتى 23 ديسمبر، عند انسحاب القوات البريطانية والفرنسية. ومازلت أتذكر غارات الفدائيين، على تجمعات الإنجليز في بورسعيد، كل ليلة، ثم حادث خطف الضابط الإنجليزي، أنطوني مورهاوس، ابن عم ملكة إنجلترا ... ذكريات ... وذكريات ... وذكريات.

كل ذلك حملته معي، وأنا ذاهب إلى إنجلترا ... ضابط مصري، من ابناء بورسعيد، أحمل كل هذه المشاعر، تجاه هذه الدولة، التي سأقيم وأدرس بها. وبعد شهرين من وصولي إليها، وأنا أعيش في ريف إنجلترا، في كليتي ... تعلمت الدرس الأول من دروس بعثتي ... أن هناك فرقاً بين الشعب الإنجليزي، الذي أصبحت أحترم ثقافته، وتاريخه، وتقاليده ... وبين الحكام والساسة منه.

وفي هذه الأثناء، ظهرت مارجريت تاتشر على السطح ... ابنة البقال الإنجليزي ... التي كانت تعيش في إحدى القرى الإنجليزية البسيطة ... وتتناوب مع والدها في العمل بمحل البقالة ... ونالت منحة تفوق مجانية للالتحاق بجامعة أكسفورد ... ونالت درجتها العلمية في مجال الكيمياء، بتفوق. ونظراً لنشاطها في المجالات العامة والسياسة، أصبحت عضوة في حزب المحافظين، حتى تولت زعامته في فبراير 1975. ليفوز حزبها، بعد ذلك، في الانتخابات في مايو 1979، لتصبح مارجريت تاتشر "أول رئيسة وزراء" في تاريخ بريطانيا، وإن كان لقب "أول رئيس وزراء بدرجة في مجال علمي" مصدر فخرها واعتزازها.

ومنذ اليوم الأول ... ومن خلال شاشات التليفزيون ... أعجبت بهذه الشخصية ... والتي أصبحت شخصية خارقة، ليس في بريطانيا فقط، ولكن في نظر العالم بأسره، حتى أطلق عليها لقب "المرأة الحديدية".قادت تاتشر السياسة الاقتصادية لبريطانيا، بتطبيق قوانين لخصخصة الشركات العامة، إصلاح قوانين الضرائب، وتقليص دور اتحادات العمال، كما قضت على مشكلة إضراب عمال مناجم الفحم، فحققت انتعاشاً اقتصادياً كبيراً في البلاد. وكان انتصارها العسكري واسترداد جزر الفوكلاند من الأرجنتين، سبباً في إعادة انتخابها لفترة ثانية في عام 1983، بأغلبية ساحقة. ثم أعيد انتخابها لفترة ثالثة في 1987.

وأذكر أنني كنت ضمن وفد عسكري، في زيارة رسمية إلى لندن، أثناء حرب الفوكلاند، وشاهدت كيف أدارت مسز تاتشر مراحل الحرب، وأتذكر جيداً كيف اتحد، آنذاك، حزب العمال المعارض، مع حزب المحافظين الحاكم، من أجل مصلحة بريطانيا. وكان ذلك واحداً من الدروس الهامة؛ عندما تتعرض البلاد للخطر، فالكل صف واحد ضد هذا الخطر. أما بعد الحرب، فلقد تقدم حزب العمال بالعديد من الاستجوابات في البرلمان، لمعرفة التفاصيل والأحداث ... وهو ما كان درساً، آخر، عظيماً في الديمقراطية.

وطوال فترة دراستي في إنجلترا، وحتى بعد عودتي إلى القاهرة، وأنا أتابع هذه الشخصية القوية، وما لها من "كاريزما"، حتى صارت مثلاً أعلى لي في الإدارة، وقوة الشخصية، واتخاذ القرار، والثقة بالنفس، مصحوباً بسلامة ودقة اللغة في جميع خطبها أو تصريحاتها.

وجاء يوم تخرجي منكلية كمبرلي الملكية، وهو ما جرى التقليد، طيلة السنوات السابقة، أن تحضره ملكة بريطانيا بشخصها، إلا أن ظروفاً مرضية حالت دون ذلك، في هذا العام، ففوضت رئيسة الوزراء، مسز تاتشر، للحضور نيابة عن جلالة الملكة. وكان البروتوكول يقضي بأن يجلس على يسار الملكة، أقدم الدارسين، وهو من كان ضابطاً بريطانياً في دفعتي. ولما كان الجميع يعلم بعشقي لهذه الأسطورة، فقد تحدثوا معه في إمكانية إتاحة مكانه لي، بصفتي الأول على الخريجيين، فلم يمانع الضابط الإنجليزي، خاصة وأن والده ينتمي لحزب العمال البريطاني، المعارض لمارجريت تاتشر وحزبها من المحافظين.

وقبيل دخولها لقاعة الاحتفالات، شرح لها مسئولو المراسم، بأن من يجلس إلى يسارها اليوم، هو ضابط مصري، وترتيبه الأول في التخرج، ويعتبرك مثلاً أعلى له في الإدارة والسياسة. مضت ساعة ونصف، هي مدة الاحتفال، تحدثنا فيهم كثيراً عن مصر، وعن فترة حكم عبد الناصر، وبداية حكم السادات، لينتهي الحفل، وقد ازددت إعجاباً وإيماناً بشخصية مسز تاتشر، التي استحقت لقب "المرأة الحديدية"، لقوتها وصلابتها.

وعدت إلى مصر، وظللت أتابع أخبارها، حتى استقالتها في عام 1990 عن رئاسة الوزراء بعد 12 عام، هي أطول مدة حكم لرئيس وزراء بريطاني في القرن العشرين، وكذلك استقالتها من رئاسة حزب المحافظين، وهي في قمة مجدها، حيث خشي البعض من أن يحولها استمرارها في الرئاسة إلى طاغية. ثم شاهدت بعد ذلك الفيلم الذي انتجته هوليوود بعنوان "المرأة الحديدية"، ليروي قصة حياة مارجريت تاتشر، ونالت عنه الممثلة ميريل ستريب، جائزة الأوسكار، عن تجسيدها لشخصية مسز تاتشر، وحزنت كثيراً وأنا أرى مشاهد مرضها في أيامها الأخيرة، بمرض الزهايمر اللعين، والذي أفقدها القدرة على تذكر أحداث الماضي. وتذكرت صديقي الدكتور أحمد زويل، وما قاله لي، من أن الولايات المتحدة تنفق مبالغ ضخمة على الأبحاث، للوصول إلى علاج لهذا المرض، الذي أصاب كذلك الرئيس السابق رونالد ريجان، ليقضي السنوات الأربع الأخيرة قبل وفاته، لا يتذكر، حتى، أنه كان يوماً رئيساً للولايات المتحدة.

أعادت هذه المشاهد إلى ذاكرتي، كرهي لهذا المرض اللعين، الذي أصاب والدتي، رحمة الله عليها، في آخر سنواتها، فكنت أتقدم إليها لأقبل يدها، فتطيل النظر لي، ولا تعرفني. فلعنت هذا المرض الذي أصاب والدتي، وأصاب مثلي الأعلى في الإدارة والسياسة.

Email: sfarag.media@outlook.com