العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

امتلك الفريق فوزى كل ما يؤهله لذلك المنصب الرفيع، فى تلك الظروف الخاصة التى تمر بها الأمة، سواء القوة، والدقة، والحسم، والصرامة، والانضباط، والذكاء، وبُعد النظر، مع التخطيط الدقيق لجميع الأمور.

شخصيات فى حياتى (8).. الفريق أول محمد فوزى
 

لواء د. سمير فرج

 10 يناير 2019


قائد عظيم من رجال العسكرية المصرية ... تولى منصبه، وزيرا للدفاع، وقائدا عاما للقوات المسلحة، فى أحلك لحظات تاريخ مصر المعاصر؛ فالجيش المصرى قد مُني، لتوه، بهزيمة كبيرة على أرض سيناء، دون أن يتمكن من إطلاق رصاصة واحدة على عدوه، فتمكنت قوات العدو الإسرائيلى من احتلال شبه جزيرة سيناء، ورفعت أعلامها على الضفة الشرقية للقناة. وتبعثرت فلول القوات المنسحبة من سيناء، بعدما فقدت سلاحها، وعتادها، فوق رمال سيناء، دون خطة دفاعية لصد أى تقدم إسرائيلى فى اتجاه القاهرة.

كانت هناك مشكلتان، أساسيتان، تؤرقان مضجع الفريق فوزي؛ أولاهما انخفاض الروح المعنوية للقادة والضباط والجنود، بما فى ذلك القوات المصرية العائدة من قتالها فى اليمن، بعد سنوات من الحرب فى مناطق جبلية، فقدت خلالها كل فنون القتال الحديثة. أما ثانية المشكلات التى واجهته، فكان فقد الانضباط العسكري، الذى هو عصب أى جيش حول العالم.

ولفهم شخصية الفريق أول محمد فوزي، يجب أن تتعرف على بعض تفاصيل حياته، فقد نشأ هذا القائد الجديد فى أسرة عسكرية، إذ كان والده أحد كبار قادة الجيش، ومديراً لإدارة المدفعية، وكان جده ياورا لخديو مصر. فور تخرج الفريق فوزي، فى الكلية الحربية، شارك فى حرب فلسطين، قائداً للمدفعية المضادة للطائرات، وأصيب فى غزة عام 1949. تدرج فى المناصب حتى أصبح مدرساً فى الكلية الحربية، وهو برتبة بكباشى (مقدم أركان حرب)، وعمل بها لفترة طويلة، حتى صار كبير معلمى الكلية، ثم مديراً للكلية الحربية المصرية. بعدها عُين رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة، حتى عينه الرئيس عبد الناصر قائداً عاماً للجيش، ووزيراً للدفاع.

امتلك الفريق فوزى كل ما يؤهله لذلك المنصب الرفيع، فى تلك الظروف الخاصة التى تمر بها الأمة، سواء القوة، والدقة، والحسم، والصرامة، والانضباط، والذكاء، وبُعد النظر، مع التخطيط الدقيق لجميع الأمور، الصغيرة منها والكبيرة. فما إن تولى مهام منصبه الجديد، بدأ، على الفور، فى إعداد الخطط الدفاعية للقوات غرب قناة السويس، بالتزامن مع استكمال تجهيز القوات، فنياً، بالأسلحة والمعدات، ونفسياً، لإعادة الانضباط، والثقة بالنفس، لأفراد القوات المسلحة. كما شرع فى إعداد، وتنفيذ، خطط تدريب مفصلة لجميع عناصر ووحدات الجيش، على أعلى مستوى، وساعده على تنفيذ تلك الخطط، وجود الجنرال الذهبي، الفريق عبد المنعم رياض، الذى كان، حينها، رئيساً للأركان، فكان، الفريق رياض، يمر على الخطوط الدفاعية، يومياً، للوقوف على حالتها ومستواها.

أعقب ذلك ضرورة تدريب القوات على عمليات عبور قناة السويس، فكانت تتم فى منطقة البعالوة، فى دلتا نهر النيل، وأتذكر جيداً، أننا فى أحد التدريبات، قمنا بعبور نهر النيل، مع أول ضوء، طبقاً للخطة الموضوعة، وكان التدريب يوافق صباح يوم العيد، وكنت أحمل راديو صغيرا فى جيبي، لأسمع تكبيرات العيد، بينما أنادى على جنودى «اهجم للأمام»، وهو ما صادف مرور الفريق أول فوزي، يصاحبه قائد الكتيبة، بينما نحن فى مرحلة التدريب على صد الهجوم المعادي، فقال لنا الفريق أول فوزى «أنا عارف إنكوا بتتدربوا يوم العيد، بس أنا واثق من يقينكوا بأن العيد الكبير هو يوم النصر».

تعددت لقاءاتى مع الفريق أول محمد فوزي، بصفته مديراً للكلية الحربية، وأنا طالب بها، ثم بعدما صار وزيراً للدفاع، وأنا ضابط صغير، ولكن يبقى لقاءً لا تغيب ذكراه عني، بعدما توليت إدارة الشئون المعنوية، إذ أنا جالس بمكتبي، والهاتف المباشر يدق، فالتقطته، لأسمع على الجهة الأخرى صوت الفريق أول محمد فوزى يقول أنت مدير التوجيه المعنوى ... يا بنى محدش بيسأل عنى ليه ... نسيتوني؟ ... نزلت كلماته عليّ كالصاعقة، وطلبت منه السماح بزيارته فوراً. ما هى إلا دقائق، وكنت قد وصلت إلى منزله، بحى مصر الجديدة، لأرى من كنا نرتجف أمام شموخه، وهيبته، وقد أنهكته السنون، وحفر الزمن بصماته على جبينه.

لم يسعنى سوى أن أعتذر له بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن جميع أفراد القوات المسلحة، عن ذلك السهو غير المقصود، فى حق من أعاد تنظيم القوات المسلحة المصرية، وأعاد الانضباط لها، وأعاد تسليح قواتها، وتنظيم تدريباتها لاقتحام الموانع المائية، ومن وضع أول خطة للعبور، واقتحام خط بارليف، سميت باسم «المآذن العالية».

عندما علم الرئيس الأسبق حسنى مبارك بما حدث، أمر بدعوة الفريق أول محمد فوزي، لاحتفال تخريج الكلية الحربية، وحضر الاحتفال، بالفعل، ورأى كل أبنائه، وتلامذته، من خريجى الكلية، وقد صاروا قادة القوات المسلحة المصرية. وبعد انتهاء مراسم الاحتفال، اجتمع به الرئيس الأسبق مبارك، وحضر اللقاء كبار القادة العسكريين، فى جلسة ودية، فاضت خلالها الذكريات المشتركة، عن قيادة اللواء محمد حسنى مبارك للقوات الجوية المصرية، تحت رئاسة وزير الدفاع، الفريق أول محمد فوزي.

استعد الفريق أول محمد فوزى للمغادرة، فوجد جميع قادة القوات المسلحة، قد اصطفوا بالبهو، يؤدون له التحية العسكرية، ويذكرونه بأسمائهم، فأحسست بأنه يسترجع ذكريات غالية مرت عليه فى ذلك المكان، وشهدت عليها جدرانه، ونظرت إلى وجهه، وهو يستقل سيارته، وأقسم بالله، بأننى رأيت شخصا آخر، غير ذلك الذى التقيته منذ أسابيع فى منزله... لقد عاد به الزمن، وصغر سنه فى تلك الساعات الثلاث التى قضاها فى الاحتفال، حتى إنه قال لي، نصاً، «أنا حياتى رجعت لى النهاردة... ومال بعدها على أذن المشير طنطاوي، وقال له، أنا يا حسين كنت بسيبك تلبس البدلة المميزة، وأنت مدرس فى الكلية، عشان الطلبة... إنت كنت مدرس متميز».

بعد شهور من ذلك اللقاء، دهمه المرض، وكنت دائماً على اتصال به، حتى فارق الحياة، فكان ذلك اليوم، واحداً من أتعس أيام حياتي، ليس فقط لأنه رجل بذل حياته من أجل عزة مصر، وكرامتها، وقدم الكثير لقواتها المسلحة، فى أحلك لحظات عاشتها بعد هزيمة 67، ولكن لما عرفته منه، وتعلمته على يديه، حتى آخر يوم فى عمره ... لن ينسى التاريخ هذا القائد، وغيره من العظماء، ممن حافظوا على مصر، وأعادوا لها مجدها.



Email: sfarag.media@outlook.com