العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وفجأة، تغيرت الأوضاع تماماً مع بدء ظهور دراسات جيولوجية عن المنطقة، تنبئ بوجود بترول، وغاز طبيعي في أعماق البحر المتوسط.

 دوائر الأمن القومي المصري ... البحر الأبيض المتوسط

لواء أ.ح. دكتور/ سمير فرج

 

في إطار متابعة دوائر الأمن القومي المصري؛ الدائرة العربية، والأفريقية، والبحر الأحمر، ودائرة حوض نهر النيل، والبحر المتوسط،نركز اليوم على واحدة من أهم الدوائر التي تتحكم في الفكر المستقبلي لمصر ... خلال الخمس سنوات القادمة ... وهي دائرة البحر الأبيض المتوسط.

في الماضي كان يعرف البحر الأبيض المتوسط بأنه "بحيرة عربية أوروبية" ... محدودة الفكر والصراعات. فالبحر الأبيض المتوسط يمثل شواطئ شمالية للدول العربية وإسرائيل ... وشواطئ جنوبية للدول الأوروبية المطلة عليه ... مع منفذ لتركيا من البحر الأسود للعالم الخارجي ... ويتحكم فيه من الغرب مضيق جبل طارق.

ولقد ظلت الأمور هادئة في البحر المتوسط، إلا من المناوشات بين تركيا واليونان حول قبرص ... أو خلال فترات التوتر بين مصر وإسرائيل في حروبهما المختلفة. وظل البحر المتوسط محافظاً على سمته الآمنة كممر للتجارة العالمية، وخاصة نقل البترول من الخليج العربي، ماراً بقناة السويس، إلى البحر المتوسط ودول أوروبا ... ومن خلال مضيق جبل طارق إلى بريطانيا، وأمريكا، ودول أوروبا في الشمال. وأصبح البحر المتوسط بحيرة هادئة، لا يعكر صفوها أي نزاعات، رغم وجود العديد من الدول المطلة على هذا البحر. وكانت هذه الدائرة، بالنسبة لمصر، من أكثر الدوائر هدوءاً، خاصة بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، ونظراً لما تتمتع به مصر من علاقات طيبة مع جيرانها، المطلة على البحر المتوسط، بما فيها تركيا ... قبل وصول أردوغان إلى الحكم.

وفجأة، تغيرت الأوضاع تماماً مع بدء ظهور دراسات جيولوجية عن المنطقة، تنبئ بوجود بترول، وغاز طبيعي في أعماق البحر المتوسط ... مع منطقة شمال الدلتا المصرية. وتسابقت الشركات العالمية لتوقيع اتفاقيات مع دول المنطقة، لبدء الحفر لاكتشاف الغاز الطبيعي في المنطقة. وتؤكد الدراسات أن المناطق المتوقعوجود الغاز الطبيعي فيها بكميات كبيرة جداً تقع قبالة السواحل المصرية ... وتحديداً أمام الدلتا ... ثم جزءاً من السواحل الغربية لإسرائيل، وتمتد هذه المناطق حتى اليونان وجزيرة قبرص. لذلك بدأ استنفار هذه الدول مبكراً ... وانضمت إليهما تركيا ... نظراً لسيطرتها على جزء من قبرص، والمعروفة بقبرص التركية. وخلال فترة حكم الإخوان لمصر، فكر الرئيس مرسي بإعادة ترسيم الحدود البحرية مع تركيا وقبرص التركية. ونحمد الله على قيام الرئيس السيسي، والشعب المصري بالإطاحة بالإخوان ... ليعود لمصر توازنها، وقدرتها على التفكير بأسلوب عقلاني في كيفية إدارة الأحداث في منطقة البحر المتوسط.

فقام الرئيس السيسي بثلاث زيارات، متعاقبة، لكل من قبرص واليونان، حيث تم ترسيم الحدود البحرية معهما ... فيماقد سبق هذا ترسيماً بين مصر وإسرائيل، عندما بدأت إسرائيل أولى اكتشافاتهافي حقلي تمار وليفياثان، وبعد نشر الإخوان تسريبات مفاداها أن حقول الغاز الإسرائيلية تقع داخل الحدود المصرية ... إلا أنه بتأكد مصر من وقوع تلك الحقول داخل الحدود الإسرائيلية، تم ترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، لمنع ولتفادي أي مشاكل في المستقبل، خاصة في مجالات اكتشافات الغاز الطبيعي.

وحديثاً ظهرت وثيقة أمريكية، تشير إلى أن البحر المتوسط "يطفو فوق بحيرة من الغاز الطبيعي، في مناطق مصر وشمال الدلتا، وجزء من إسرائيل، وقبرص، واليونان" ... وهو ما دفع مصر لتوقيع العقود مع كبرى شركات البترول، مثل بريتيش بتروليوم، وإيني الإيطالية، وشل الأمريكية، وغيرهم من الشركات الأخرى. ولقد حددت هذه الوثيقة، أنه بحلول عام 2020، ستصبح مصر من أكبر الدول المنتجة للغاز الطبيعي، من حقولها الجديدة في البحر المتوسط وشمال الدلتا، وأن هذا الإنتاج الوفير سيحقق لمصر اكتفاءاً ذاتياً من الوقود اللازم في مجالات الصناعة، والاستهلاك المنزلي، علاوة على فائض للتصدير. وأضافت الوثيقة الأمريكية، أن هذه الوفرة في الإنتاج ستمكن مصر من مد خط لتصدير الغاز إلى أوروبا، عبر قبرص واليونان، كما ستشارك هاتان الدولتان في استخدام ذات الخط لتصدير فائض إنتاجهما من الغاز. كما أن نوعية هذا الغاز المكتشف، حالياً، في مصر من أجود أنواع الغاز الطبيعي، وأن تسويق هذا الغاز المصري، مستقبلاً، عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا، سيعتبر الأقل تكلفة، مقارنةبأي دولة أخرى، لما سيحققه التصدير عبر أنابيب الغاز من وفر كبير، بدلاً من تحويله إلى (LNG)، أي سائل، ثم إعادة تحويله إلى غاز، مرة أخرى، في دولة الاستقبال. وتؤكد الوثيقة الأمريكية أن هذه الاكتشافات هي ما دعت الرئيس السيسي إلى توقيع اتفاقيات تعاون مع قبرص واليونان، وانتهت، مؤخراً، بمناورة عسكرية، تأكيداً للتفاهم، وعمق التعاون بين الدول الثلاث.

ولعلنا هنا نتذكر عند قيام ثورة يوليو 52، أن أهم حليف لمصر في المنطقة، آنذاك،كان الأسقف مكاريوس في قبرص ... حيث قدمت قبرص لمصر المساعدة في العديد من المشاكل في المنطقة. ولا يفوتنا أن نذكر أن ما قدمته من معلومات لمصر، قد ساعدت عبد الناصر في اتخاذ قرار تأميم قناة السويس، وهو ما يؤكد أهمية أن تكون قبرص حليفاً لمصر في منطقة البحر المتوسط.

أما على جانب مصر، فقدأكدت الوثيقة أن الرئيس المصري قام بدعم قدرات مصر الدفاعية ... بعيداً عن المظلة الأمريكية ... من فرنسا، وألمانيا، وروسيا، والصين ... بهدف حماية استثمارات مصر المستقبلية في منطقة البحر المتوسط. وهو أمر تؤمن، وتلتزم به كافة الدول؛ من ضرورة تأمين اقتصادها ومواردها، بقوة عسكريةعلى أعلى درجات الكفاءة ... والاحتراف.

كما يجب على مصر أن تضع في اعتبارها، خلال المرحلة القادمة، مواجهة بعض العدائيات الدولية في هذا المجال ... وأخص بالذكر تركيا تحديداً ... التي ستحاول استغلال الجزء التركي من جزيرة قبرص من ناحية ترسيم الحدود البحرية في المنطقة، والتي قد تتداخل مع حدود قبرص اليونانية ... وهو ما يجب أن يعالج في إطار دبلوماسي بين الدولتين، تفادياً للتصعيد، الذي قد يصل لمواجهة عسكرية بين تركيا واليونان ... كما حدث من قبل.

وبهذا يتضح أن دائرة البحر الأبيض المتوسط، أصبحت، حالياً، أهم الدوائر التي تؤثر في مجريات الأمن القومي المصري في الفترة المقبلة. وهو ما يلزم بمصر بضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنشيط علاقاتها الدبلوماسية ... والاقتصادية ... والثقافية مع دول البحر المتوسط. وبالرغم من أن سياسة مصر الخارجية لا تميل إلى الدخول في تحالفات مع العديد من الدول، إلا أنه يمكننا التوصية بزيادة ارتباط مصر بدول المنطقة عن طريق الاتفاقات المختلفة، التي لا ترقى لمستوى الأحلاف ... مع استمرار الثوابت في السياسة المصرية، التي بدأتها منذ ثورة يوليو 52، بأن تكون لمصر علاقات متوازنة مع كل الاتجاهات، كل في إطار خدمة المصلحة العليا والقومية للبلاد ... والتي يديرها حالياً، وبكل براعة، الرئيس عبد الفتاح السيسي.

إن المستقبل الواعد لمصر في المستقبل القريب، مرهون بتضامن كافة قوى الشعب المصري، من أجل الحفاظ على الأمن القومي للبلاد.

Email: sfarag.media@outlook.com