العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وفجأة، تغيرت الأوضاع تماماً مع بدء ظهور دراسات جيولوجية عن المنطقة، تنبئ بوجود بترول، وغاز طبيعي في أعماق البحر المتوسط ... مع منطقة شمال الدلتا المصرية. وتسابقت الشركات العالمية لتوقيع اتفاقيات مع دول المنطقة.

الاستراتيجية المصرية نحو دول حوض البحر الأبيض المتوسط
 

لواء د. سمير فرج

 27 أكتوبر 2017


نتحدث اليوم، عزيزي القارئ، عن آخر استراتيجيات مصر الخارجية، المتمثلة في استراتيجيتها نحو دول حوض البحر الأبيض المتوسط، لنختم بذلك سلسلة من المقالات،

 بدأناها بالحديث عن الاستراتيجية المصرية نحو القوي العظمي، المؤثرة في أمن مصر القومي. والتي تمثلت في استراتيجياتها نحو الولايات المتحدة الأمريكية، واستراتيجيتها نحو الدول الأوروبية، عدا روسيا، والتي أفردت مصر لها استراتيجية مستقلة بصرف النظر عن موقعها الجغرافي، ثم تناولنا استراتيجية مصر نحو دول آسيا، وأخري نحو دول جنوب غرب آسيا.

أعقبنا ذلك بمقالات لاحقة تناولنا فيها الاستراتيجيات المختلفة التي تتبناها مصر نحو الدول العربية، ثم استراتيجيتها نحو دول القارة الأفريقية، وثالثاً استراتيجيتها نحو دول حوض النيل، تلا ذلك عرض للاستراتيجية المصرية نحو دول حوض البحر الأحمر، وأخيراً، تأتي الاستراتيجية المصرية نحو دول حوض البحر الأبيض المتوسط، التي سنتناول تفاصيلها في هذا المقال.

كان البحر الأبيض المتوسط يُعرف، في الماضي، بأنه "بحيرة عربية أوروبية" ... محدودة الفكر والصراعات. فالبحر الأبيض المتوسط يمثل شواطئ شمالية للدول العربية وإسرائيل ... وشواطئ جنوبية للدول الأوروبية المطلة عليه ... مع منفذ لتركيا من البحر الأسود للعالم الخارجي ... ويتحكم فيه من الغرب مضيق جبل طارق.

ولقد ظلت الأمور هادئة في البحر المتوسط، إلا من المناوشات بين تركيا واليونان حول قبرص ... أو خلال فترات التوتر بين مصر وإسرائيل في حروبهما المختلفة. وظل البحر المتوسط محافظاً علي سمته الآمنة كممر للتجارة العالمية، وخاصة نقل البترول من الخليج العربي، ماراً بقناة السويس، إلي البحر المتوسط ودول أوروبا ... ومن خلال مضيق جبل طارق إلي بريطانيا، وأمريكا، ودول أوروبا في الشمال. وأصبح البحر المتوسط بحيرة هادئة، لا يعكر صفوها أي نزاعات، رغم وجود العديد من الدول المطلة علي هذا البحر. وكانت هذه الدائرة، بالنسبة لمصر، من أكثر الدوائر هدوءاً، خاصة بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، ونظراً لما تتمتع به مصر من علاقات طيبة مع جيرانها، المطلة علي البحر المتوسط، بما فيها تركيا ... قبل وصول أردوغان إلي الحكم.

وفجأة، تغيرت الأوضاع تماماً مع بدء ظهور دراسات جيولوجية عن المنطقة، تنبئ بوجود بترول، وغاز طبيعي في أعماق البحر المتوسط ... مع منطقة شمال الدلتا المصرية. وتسابقت الشركات العالمية لتوقيع اتفاقيات مع دول المنطقة، لبدء الحفر لاكتشاف الغاز الطبيعي في المنطقة. وتؤكد الدراسات أن المناطق المتوقع وجود الغاز الطبيعي فيها بكميات كبيرة جداً تقع قبالة السواحل المصرية ... وتحديداً أمام الدلتا ... ثم جزءاً من السواحل الغربية لإسرائيل، وتمتد هذه المناطق حتي اليونان وجزيرة قبرص. لذلك بدأ استنفار هذه الدول مبكراً ... وانضمت إليهما تركيا ... نظراً لسيطرتها علي جزء من قبرص، والمعروفة بقبرص التركية.

وبعدما أطاح الشعب المصري بجماعة الإخوان، وانتخب الرئيس السيسي، عاد لمصر توازنها، وقدرتها علي التفكير بأسلوب عقلاني في كيفية إدارة الأحداث في منطقة البحر المتوسط. فقام الرئيس السيسي بثلاث زيارات، متعاقبة، لكل من قبرص واليونان، حيث تم ترسيم الحدود البحرية معهما ... فيما قد سبق هذا ترسيماً بين مصر وإسرائيل، عندما بدأت إسرائيل أول اكتشافاتها في حقلي تمار وليفياثان، وبعد نشر الإخوان تسريبات مفاداها أن حقول الغاز الإسرائيلية تقع داخل الحدود المصرية ... إلا أنه بتأكيد مصر من وقوع تلك الحقول داخل الحدود الإسرائيلية، تم ترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، لمنع ولتفادي أي مشاكل في المستقبل، خاصة في مجالات اكتشافات الغاز الطبيعي.

وحديثاً ظهرت وثيقة أمريكية، تشير إلي أن البحر المتوسط "يطفو فوق بحيرة من الغاز الطبيعي، في مناطق مصر وشمال الدلتا، وجزء من إسرائيل، وقبرص، واليونان" ... وهو ما دفع مصر لتوقيع العقود مع كبري شركات البترول، مثل بريتيش بتروليوم، وإيني الإيطالية، وشل الأمريكية، وغيرهما من الشركات الأخري. ولقد حددت هذه الوثيقة، أنه بحلول عام 2020، ستصبح مصر من أكبر الدول المنتجة للغاز الطبيعي، من حقولها الجديدة في البحر المتوسط وشمال الدلتا، وأن هذا الإنتاج الوفير سيحقق لمصر اكتفاء ذاتياً من الوقود اللازم في مجالات الصناعة، والاستهلاك المنزلي، علاوة علي فائض للتصدير. وأضافت الوثيقة الأمريكية، أن هذه الوفرة في الإنتاج ستمكن مصر من مد خط لتصدير الغاز إلي أوروبا، عبر قبرص واليونان، كما ستشارك هاتان الدولتان في استخدام ذات الخط لتصدير فائض إنتاجهما من الغاز. كما أن نوعية هذا الغاز المكتشف، حالياً، في مصر من أجود أنواع الغاز الطبيعي، وأن تسويق هذا الغاز المصري، مستقبلاً، عبر خطوط الأنابيب إلي أوروبا، سيعتبر الأقل تكلفة، مقارنة بأي دولة أخري، لما سيحققه التصدير عبر أنابيب الغاز من وفر كبير، بدلاً من تحويله إلي (LNG)، أي سائل، ثم إعادة تحويله إلي غاز، مرة أخري، في دولة الاستقبال. وتؤكد الوثيقة الأمريكية أن هذه الاكتشافات هي ما دعت الرئيس السيسي إلي توقيع اتفاقيات تعاون مع قبرص واليونان، وانتهت، مؤخراً، بمناورة عسكرية، تأكيداً للتفاهم، وعمق التعاون بين الدول الثلاث.

ولعلنا هنا نتذكر قيام ثورة يوليو52، والتي برز فيها الأسقف مكاريوس في قبرص، كأحد أهم حلفاء مصر في المنطقة ... حيث قدمت قبرص لمصر المساعدة في العديد من المشاكل آنذاك. ولا يفوتنا أن نذكر أن ما قدمته من معلومات لمصر، ساعدت الرئيس عبد الناصر في اتخاذ قرار تأميم قناة السويس، وهو ما يؤكد أهمية حفاظ مصر علي تحالفها التاريخي مع قبرص بما يحقق مصالحها في البحر المتوسط.

أما علي جانب مصر، فقد أكدت الوثيقة أن الرئيس المصري قام بدعم قدرات مصر الدفاعية ... بعيداً عن المظلة الأمريكية ... من فرنسا، وألمانيا، وروسيا، والصين ... بهدف حماية استثمارات مصر المستقبلية في منطقة البحر المتوسط. وهو أمر تؤمن، وتلتزم به كافة الدول؛ من ضرورة تأمين اقتصادها ومواردها، بقوة عسكرية علي أعلي درجات الكفاءة ... والاحتراف.

كما يجب علي مصر أن تضع في اعتبارها، خلال المرحلة القادمة، مواجهة بعض العدائيات الدولية في هذا المجال ... وأخص بالذكر تركيا تحديداً ... التي ستحاول استغلال الجزء التركي من جزيرة قبرص من ناحية ترسيم الحدود البحرية في المنطقة، والتي قد تتداخل مع حدود قبرص اليونانية ... وهو ما يجب أن يعالج في إطار دبلوماسي بين الدولتين، تفادياً للتصعيد، الذي قد يصل لمواجهة عسكرية بين تركيا واليونان ... كما حدث من قبل.

وبهذا يتضح أن دائرة البحر الأبيض المتوسط، أصبحت، حالياً، أهم الدوائر التي تؤثر في مجريات الأمن القومي المصري في الفترة المقبلة. وهو ما يلزم بمصر بضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنشيط علاقاتها الدبلوماسية ... والاقتصادية ... والثقافية مع دول البحر المتوسط. وبالرغم من أن سياسة مصر الخارجية لا تميل إلي الدخول في تحالفات مع العديد من الدول، إلا أنه يمكننا التوصية بزيادة ارتباط مصر بدول المنطقة عن طريق الاتفاقات المختلفة، التي لا ترقي لمستوي الأحلاف ... مع استمرار الثوابت في السياسة المصرية، التي بدأتها منذ ثورة يوليو52، بأن تكون لمصر علاقات متوازنة مع كل الاتجاهات، كل في إطار خدمة المصلحة العليا والقومية للبلاد ... والتي يديرها حالياً، وبكل براعة، الرئيس عبد الفتاح السيسي.



Email: sfarag.media@outlook.com