العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

طلب أردوغان مقابلة الرئيس الروسي، بوتين، فلم يرد الأخير بالموافقة، وقام بإرسال وفد عسكري للتفاوض، وهو، في الحقيقة، وفد لا يملك سلطة اتخاذ القرار، وانحصرت مهمته في إبلاغ الأتراك رسالة، واضحة، مفاداها أن الجيشين، السوري، والروسي، لن ينسحبا من المواقع الجديدة في إدلب.

تركيا وأردوغان في ورطة
 

لواء د. سمير فرج

 7 مارس 2020


من المبادئ الأساسية، في علوم الاستراتيجية، والأمن القومي، لأي دولة، هو ألا تحارب في اتجاهين استراتيجيين، في ذات الوقت، أو بمعنى مبسط، ألا تحارب الدولة على جبهتين في وقت واحد، وأبسط مثال على ذلك، نتائج حرب 67، عندما أدارت مصر حربها ضد إسرائيل، في سيناء، بينما كانت تحارب على جبهة أخرى، في اليمن، وهو ما كان أحد أهم أسباب هزيمة مصر، في تلك الحرب، والسبب الرئيسي الذي دفعها، فور انتهاء القتال، لسحب قواتها من اليمن، والتفرغ لقتال إسرائيل، حتى تحرير الأرض، في أكتوبر 73.

وبناءً عليه، فإن ما نراه اليوم، في تركيا، خطأ جسيم، في تطبيق المفاهيم الاستراتيجية، العسكرية، العلمية، بكل المقاييس؛ إذ أقحم أردوغان الجيش التركي في حرب محمومة، شمال سوريا، بينما فتح جبهة، أخرى، للقتال على بعد آلاف الأميال، في ليبيا، ليدفع الجيش التركي، إلى مغامرة، غير محسوبة العواقب، في اتجاه طرابلس العاصمة. والحقيقة إن أردوغان بعد نجاحه في القضاء على “الانقلاب العسكري”، عام 2016، تمادى في الاستبداد بالسلطة، واتخاذ القرارات الفردية، وكان أبرزها قراره، منذ عدة شهور، بعزل محافظ البنك المركزي التركي، بعد رفض، الأخير، تنفيذ أوامره، بتعديل السياسة المالية للبلاد، ومن ثم ترتب على ذلك انخفاض الليرة التركية، في ذلك الوقت، إلى أدنى مستوياتها، في تاريخها الحديث، وذلك نتيجة لقرارات أردوغان، غير المدروسة.

أما من الناحية العسكرية، فقد قام أردوغان، متذرع بحجة الانقلاب، بالتخلص من معظم القادة الأتراك العسكريين، فلم يفقد الجيش التركي، هيبته، فحسب، وإنما أفقده خبرة خيرة هؤلاء القادة الكبار، بهدف إحكام سيطرته على الجيش، من خلال تغيير، جوهري، في نظام القيادة والسيطرة، وحيث أنه من المعروف إتباع القوات المسلحة التركية، للنظام الغربي، في أسلوب القيادة العسكرية، بوجود رئيس أركان حرب، الذى يعتبر، في حقيقة الأمر، هو القائد الفعلي للقوات المسلحة، بينما وزير الدفاع، شخصية مدنية، مهمته التنسيق بين مطالب الجيش والدولة، خاصة في أمور الأفراد، والنواحي المالية، وعليه، فقد أصدر أردوغان، قراراً، بالمخالفة لكل القوانين، والأعراف، العسكرية، الدولية، بأن أوكل لوزير الدفاع، المدني، قيادة القوات البرية، والبحرية، والجوية، وحتى المخابرات الحربية، فتسنى له، بذلك، السيطرة، المباشرة، على الجيش.

ونتيجة لذلك العوار العسكري، توالت الكوارث على الجيش التركي، إذ قام أفراده، تنفيذاً للتعليمات الصادرة إليهم، بوضع نقاط مراقبة عسكرية، تركية، في منطقة شمال سوريا، منعزلة عن بعضها البعض، وليس بينهم ثمة تعاون نيراني، وهو ما يمثل خطأ كبيراً، يرتقي لحد الخطيئة، في مفهوم العلوم العسكرية، فضلاً عن عدم وجود احتياطيات مدرعة، أو ميكانيكية، لتدعيمها، علاوة على عدم وجود غطاء جوى مساند لها، أو عناصر للدفاع الجوي، لحماية تلك النقاط من أي هجمات جوية معادية. ومن ثم، ونتيجة لتلك الخطايا، نجح الجيش السوري، في التقدم، سريعاً، في إدلب، بمعاونة القوات الجوية الروسية، فارضاً سيطرته على معظم أجزاءها، بل ووجدت نقاط المراقبة التركية نفسها، وقد تعدتها القوات السورية، فيما يعرف بأسلوب “الالتفاف”، أو “Bypass Policy”. بل وزاد من فداحة الأمر، بالنسبة لتركيا، سقوط العشرات من القتلى، ومثلهم من الجرحى، بين صفوف الجنود الأتراك، وصار لزاماً على القيادة التركية، اتخاذ القرار، العسكري، المناسب لتلك الظروف؛ فهل تعود أدراجها، أم تخوض حرب شاملة، في شمال سوريا، ضد الجيش السوري، المدعوم من القوات الروسية، وهو القرار المحفوف بالمخاطر؟

طلب أردوغان مقابلة الرئيس الروسي، بوتين، فلم يرد الأخير بالموافقة، وقام بإرسال وفد عسكري للتفاوض، وهو، في الحقيقة، وفد لا يملك سلطة اتخاذ القرار، وانحصرت مهمته في إبلاغ الأتراك رسالة، واضحة، مفاداها أن الجيشين، السوري، والروسي، لن ينسحبا من المواقع الجديدة في إدلب. فلم يجد، أردوغان، بد من الاجتماع مع هيئة الأركان التركية، لأول مرة، منذ سحب اختصاصاتها، فقدمت تقرير، يؤكد أن روسيا لن تخرج، أبداً، من سوريا، سبيلها إلى المياه الدافئة، في البحر المتوسط، ودللت على ذلك بإقامة قاعدتين عسكريتين، بها، إحداهما جوية في حميم، والأخرى بحرية في طرطوس، بعدما ساعدت النظام السوري، على استعادة كافة الأراضي السورية، من أيدي ميليشيات داعش، الإرهابية.

وفي رسالة ردع، حركت روسيا قطعتين بحريتين، تحملان صواريخ كروز، أمام السواحل السورية، مما زاد من حيرة أردوغان؛ فصمته يضعه تحت المساءلة الداخلية، في حين أن أي محاولة منه للتحرش بروسيا، من شأنه المغامرة بإلغائها لصفقة الصواريخ الروسية (S400)، التي تعاقد عليها، وكانت سبباً في توقيع عقوبات اقتصادية عليه، من الولايات المتحدة الأمريكية، أثرت سلباً على الأحوال الاقتصادية، والمعيشية، للشعب التركي. فضلاً عن احتمال انسحاب روسيا من الاتفاق الاقتصادي، الذي تم توقيعه، مؤخراً، وتقوم، روسيا، بموجبه بنقل الغاز الطبيعي، إلى أوروبا، من خلال خط أنابيب، عبر تركيا، تجنباً لمشاكل الخط الموجود في شمال أوروبا، في أوكرانيا، وهو ما يترتب عليه نزيف من الخسائر الاقتصادية لتركيا، تزيد من تدهور جميع مؤشراتها الاقتصادية الحالية.

انطلق أردوغان، مستغيثاً، بحلف الناتو، لدعمه في شمال سوريا، فاصطدم بالبند (رقم 5)، من اتفاقيته، التي تسمح لقوات الناتو بالتدخل العسكري، إذا تعرضت أحد دوله الأعضاء للهجوم، وتحظر على قواته التدخل لدعم دولة، في هجومها على أراضي دولة أخرى، ورد أمين عام حلف الناتو على أردوغان قائلاً، “أنت لم تستشر الحلف قبل قيامك بهذا العمل العسكري”. ورغم ما للولايات المتحدة من مآرب، في اصطدام أردوغان، بروسيا، في سوريا، إلا أن دعم ترامب لأردوغان، لم يخرج عن الإطار “المعنوي”، إذ لم يتلق، حتى الآن، رداً، رسمياً، من أمريكا، على طلب دعمه ببطاريات هوك المضادة للطائرات، الطلب الذي ردت عليه المتحدثة الرسمية باسم البنتاجون، ساخرة، “الآن عرفت من معك في وقت الشدة، نحن وليس الروس”. وفي خضم تخبطه، عاود، أردوغان، ابتزاز الدول الأوروبية، بفتح الحدود، أمام اللاجئين السوريين، للتوجه لأوروبا، رغم الاتفاقات، الدولية، السابقة، بينه وبين الاتحاد الأوروبي بالسماح ببقاء 3.5 مليون لاجئ سوري، على الأراضي التركية، نظير دعم مالي قدره 3 مليار دولار.

إن فتح الحدود أمام اللاجئين السوريين، هي ورقة الضغط الأخيرة، على دول أوروبا، التي يكرر أردوغان استخدامها، كلما وقع في مأزق، مثلما هو الحال، اليوم، فالقوات التركية، في شمال سوريا، في وضع عسكري ضعيف، والقيادة الروسية هي التي تتحكم في موازيين القتال، خاصة بعدما رفض الناتو إغلاق جوي لمنطقة شمال تركيا. وغير ذلك، لا أرى أمام أردوغان الكثير من الخيارات؛ فإما التصعيد، عسكرياً، في شمال سوريا، والاصطدام بالقوات الروسية، وما يترتب عليه من زيادة حجم الخسائر البشرية، والمادية، وما لذلك من انعكاسات خطيرة على وضعه الداخلي، أو التفاوض مع الجانب الروسي، بهدف الوصول إلى حل مشترك يحفظ له ماء الوجه، ويبعده عن شبح الخسارة العسكرية، والاقتصادية، خصوصا أن الجبهة الليبية مازال ينتظرها الكثير، وهو ما أظنه الدافع وراء هرولته إلى موسكو، يوم الخميس الماضي، فور أن سمح له الرئيس الروسي، بلقائه.



Email: sfarag.media@outlook.com