العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وهنا نوضح أن القتال فى المدن هو أصعب أشكال العمليات الهجومية، حيث إن ذلك يعنى خسائر كبيرة بين المدنيين من السكان، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، ففى حرب أكتوبر 1973 فشلت القوات الإسرائيلية فى الاستيلاء على مدينة السويس.

الحرب الروسية الأوكرانية نظرة تحليلية أولية
 

لواء د. سمير فرج

 6 مارس 2022


ما زالت رائحة البارود تنتشر فى كل سماء أوكرانيا، وما زالت الصواريخ البالستية تشن ضرباتها ضد الأهداف الأوكرانية، والقوات الروسية تتقدم داخل أوكرانيا من خمسة اتجاهات. وما زالت أفواج اللاجئين تتقدم فى اتجاه الدول المجاورة طلبًا للأمان، وما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تزيد من العقوبات الاقتصادية تجاه روسيا، وما زالت الحرب النفسية والإعلامية والكلامية مشتعلة بين روسيا من جانب وأوكرانيا والولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسى (الناتو) من جانب آخر، وما زالت المفاوضات بين الجانبين الروسى والأوكرانى تستمر دون أى نتائج حاسمة. وما زالت الأعمال القتالية مستمرة مع سقوط بعض المدن الأوكرانية فى أيدى القوات الروسية، وما زالت بعض المدن الأوكرانية الأخرى محاصرة تمهيدًا لسقوطها. ورغم كل ذلك لم يظهر على السطح من الفائز ومن المهزوم.

فى البداية نقول إن هذه الحرب تم تصنيفها طبقًا للعلم العسكرى أنها حرب تقليدية محدودة لأنها بين روسيا وأوكرانيا فقط، خاصة أن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو قد أعلنت منذ البداية عدم دخولها هذه الحرب. أما مصطلح تقليدية فلأنها ليست حربًا نووية. وعندما بدأ القتال كان بسبب رفض الولايات المتحدة ودول حلف الناتو تقديم تعهد مكتوب إلى روسيا ينص على عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو وعدم تواجد أى أسلحة أو معدات عسكرية داخل الأراضى الأوكرانية، والآن وبعد بدء القتال ارتفع سقف المطالب الروسية نحو أوكرانيا لتكون: أن تصبح أوكرانيا دولة محايدة وأن تعلن عدم انضمامها لحلف الناتو مستقبلًا وأن يتم تصفية البنية التحتية العسكرية الأوكرانية تمامًا، وأخيرًا أن تعترف أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. بينما طالبت أوكرانيا بوقف إطلاق النار فورًا ثم انسحاب القوات الروسية الغازية فورًا من كل الأراضى الأوكرانية..

.. وأخيرًا إعادة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا. ثم أضافت أوكرانيا فى المفاوضات الأخيرة طلبًا بقيام روسيا بفتح ممرات آمنة لخروج السكان المدنيين من أوكرانيا إلى الدول المجاورة.

وقد قامت القوات الروسية فى بداية العمليات العسكرية بالهجوم على الأراضى الأوكرانية بأسلوب قتالى عسكرى جديد لم يحدث من قبل وهو تنفيذ ضربة صاروخية بالستية ضد أهداف محددة بغرض تدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، وهو أسلوب قتال عسكرى جديد لم يحدث من قبل بدلًا من البدء بالضربات الجوية. ولعل الهدف من ذلك كان تقليل حجم الخسائر الروسية، حيث إن الصواريخ البالستية أقل تكلفة من الطائرات، حيث يصل ثمن الطائرة F16 والسوخوى 35 إلى حوالى 100 مليون دولار. وقد نجحت روسيا خلال الأيام الخمسة الأولى من القتال فى تدمير البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا والتى شملت تدمير جميع مواقع صواريخ الدفاع الجوى من طراز S300 ومواقع الرادارات العسكرية، ثم مراكز القيادة والسيطرة ومراكز الحرب الإلكترونية ومناطق التجمعات العسكرية والطائرات والقواعد العسكرية. الجديد أن هذه الضربات الصاروخية تمت بمصاحبة هجوم سيبرانى روسى مكثف لإعاقة جميع الاتصالات وشبكات الرادار والقيادة والسيطرة. لذلك ومن بداية اليوم السادس لأعمال القتال حققت روسيا سيادة جوية كاملة على الأراضى الأوكرانية (Air Supremacy)، وهذا ما دعا الرئيس الأوكرانى إلى طلب أن تقوم الولايات المتحدة وحلف الناتو بعمل حظر جوى فوق الأراضى الأوكرانية؛ وهو ما قوبل بالرفض، حيث يعنى ذلك تدخل هذه الدول عسكريًّا ضد روسيا فى سماء أوكرانيا. وبعد تحقيق هذه السيادة الجوية فى سماء أوكرانيا بدأت القوات البرية الروسية فى محاصرة المدن الأوكرانية وعلى رأسها العاصمة كييف. وقد تساءل العديد منذ البداية: كيف لم تسقط كييف وغيرها من المدن الأوكرانية فى الأيام الأولى من القتال؟.

وهنا نوضح أن القتال فى المدن هو أصعب أشكال العمليات الهجومية، حيث إن ذلك يعنى خسائر كبيرة بين المدنيين من السكان، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، ففى حرب أكتوبر 1973 فشلت القوات الإسرائيلية فى الاستيلاء على مدينة السويس وتم تدمير دباباتها فى حى الأربعين فى مدخل المدينة، حيث نجح أبطال المقاومة الشعبية فى السويس بالأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات فى صد الهجوم الإسرائيلى. لذلك قامت القوات الروسية بمحاصرة جميع المدن الكبرى الأوكرانية، وبدأت من خلال هذا الحصار بالتقدم ببطء داخل المدن بهدف إحداث أقل خسائر فى صفوف المدنيين الأوكرانيين، حيث أعلن الرئيس بوتين أن أوكرانيا جزء من روسيا، ولا نريد أن نخرج من هذه الحرب وقد خسرنا الشعب الأوكرانى.

وعندما تحدثت الأطراف عن القدرات النووية لكل جانب فأعتقد أن هذه الأحاديث جاءت فى إطار الحرب النفسية، حيث إن جميع الدول لا ترغب فى استخدام السلاح النووى، حيث يعنى ذلك فناء البشرية؛ لأن كل طرف سواء الروسى أو الأمريكى يملك من الأسلحة ما يكفى لتدمير العالم بالكامل؛ لذلك ليس من المتوقع لأى طرف استخدام هذه القدرات النووية. أما الجديد فى ذلك الصراع هو عودة الحياة والترابط داخل حلف الناتو، ذلك الحلف الذى عقّب الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عنه بأنه يعانى من موت سريرى، بل ذهب ماكرون لإعلان ضرورة تشكيل قوة عسكرية وجيش أوروبى موحد بديلًا عن حلف الناتو. لكن جاءت هذه الأحداث لتعلن إعادة توحد قوات الناتو من جديد، وهذا فى اعتقادى من أكبر المكاسب الغربية فى الحرب الروسية الأوكرانية. كما ظهرت أيضًا مفاجأة جديدة من تلك الحرب وهى قيام ألمانيا بالبدء فى إنشاء قوة عسكرية جديدة بعد أن كانت تعول فى أمنها القومى بشكل رئيسى على حلف الناتو، حيث أعلن المستشار الألمانى أولاف شولتس تخصيص 100 مليار يورو للبدء فى تطوير القدرة العسكرية الألمانية فى الفترة القادمة بعد أن شعرت ألمانيا أنه يجب الاعتماد على نفسها وعلى قدراتها العسكرية ضد أى مخاطر مستقبلية وألا تعتمد على الآخرين.

تلك كانت التحليلات الأولية مع الأيام الأولى من القتال بين روسيا وأوكرانيا، والذى لا نعلم حتى الآن كيف ستكون النهاية لأول نزاع عسكرى فى القرن الواحد والعشرين.



Email: sfarag.media@outlook.com