من المقــال عندما توجهت إلى الأقصر مكلفا بأن أكون محافظا لها، أتولى جميع شئونها كنت على ثقة من أن خبراتى المتراكمة عبر السنين فى كل ما توليت من وظائف، أو ما كُلفت به من مناصب، فضلا عن الأماكن التى عشت فيها والأحداث التى عاصرتها سوف يعينانى على فهم طبيعة صعيد مصر وثقافة سكانه وعاداتهم وتقاليدهم |
سيدة من الصعيد
كان من أهم الظواهر التى تعرفت عليها، خلال فترة وجودى بالأقصر، هى المرأة الصعيدية، اقتربت من دورها العظيم فى حياة أبناء الصعيد فوجدتها محور تلك الحياة وشريانها. من النظرة الأولى للطبيعة الجغرافية لصعيد مصر أو «مصر العليا» إذا عرفتّها بتدفق نهر النيل تعرف أنها منطقة غير جاذبة للسكان لارتفاع درجات الحرارة بها، فضلا عن امتداد ظهيرها الصحراوى إذ تزحف الجبال على رقعتها المساحية، مهاجمة وادى النيل، ومحددة لمساحة الوادى الأخضر فتندر فيها الاستثمارات، وتقل بالتالى فرص العمل المتاحة لأبنائها. وهو ما شكّل العديد من عادات هذه المنطقة. فتجد الشاب بمجرد حصوله على قدر معين من التعليم يتزوج ثم يتوجه للبحث عن لقمة العيش إما فى القاهرة أو المدن المصرية الكبيرة، وإما فى دول الخليج العربى أو ليبيا وهو ما يتحدد فى معظم الأوقات بوجود أقرباء له سبقوه إلى هناك يسدون له النصح، ويعينونه على البحث عن وظيفة اعتمادا على ما كونوه من خبرات فى مناطق عملهم فيتوجه حيث نصحوه تاركا خلفه الزوجة والأهل. وهنا يبرز الدور العظيم الذى تلعبه المرأة فى الصعيد، فبينما زوجها يجتهد للحصول على الرزق، تجدها هى تصارع الحياة فى تربية الأبناء، ورعاية شئونهم وغرس القيم والتقاليد فى وجدانهم، من وفاء وشهامة وعزة نفس ويمتد دورها لرعاية أهل الزوج، لا تفرق بينهما وبين ما تقوم به من رعاية والديها ومع تيسر حال الزوج، تجدها مشرفة على بناء البيت الجديد، وتحويله من طوب طفلى إلى بناء جديد مسلح تفعل كل هذا دونما كلل أو ملل متقنة جميع ما تقوم به من أعمال، بالرغم من عدم حصول معظمهن على أى قدر من التعليم فتجدها بذلك عماد الأسرة وقلبها النابض. جمعتنى الأقصر بمواقف عدة مع المرأة الصعيدية مازالت كلها عالقة فى ذاكرتي، ولكن ما لا أنساه أبداّ هو ذلك الموقف الذى حدث بعد شهور قليلة من تولى مسئولية المحافظة إذ كانت خطة التطوير الموضوعة والمقررة لها تقضى بإخلاء إحدى المناطق العشوائية، ونقل سكانها إلى منطقة ملاصقة من أجل إقامة مشروع تنموى جديد، وذهبت إلى تلك القرية الصغيرة، لأتواصل مع سكانها، وأشرح لهم المطلوب، وأطلعهم على أهمية ذلك المشروع الجديد وتقبل الأهالى الموقف، وتعاونوا مع المحافظة حتى تم بالفعل الانتهاء من بناء مساكن جديدة بسيطة، وانتقل إليها أهالى المنطقة. وبعد البدء فى المشروع التنموى المشار إليه فوجئت بالجهة المنفذة تطلب إجراء توسعة جديدة لإنشاء محول كهربائي، وهو ما يتطلب إزاحة المبانى مرة أخرى وبالرغم من صعوبة الموقف إلا أن أهمية إنشاء هذا المحول دفعتنى لأن ألتقى بالأهالي، مرة أخرى فتوجهت إلى القرية، ودعوت رجالها لأشرح لهم تطور الموقف، مع وعد بأن تتكفل المحافظة بجميع تكاليف البناء الجديدة، وأن تكون تلك المنازل الجديدة من المسلح، وهو ما يعد حافزاً وميزة لأهالى هذه القرية الصغيرة ودخل الأهالى إلى منازلهم للتشاور مع باقى أفراد أسرهم وطالت مدة غيابهم، فأرسلت فى استعجالهم، لمعرفة مطالبهم. وهنا خرجت لى سيدة مسنة... تتوكأ على عصاها ... ملابسها سوداء ... وتغطى رأسها بذات الربطة المميزة لأهالى الصعيد ... تقدمت نحوى بخطى بطيئة ... وبالرغم من تقدم سنها، واعتلاء ملامحها لخطوط الزمن ... إلا أننى ميزت فى عينيها نظرة ثاقبة، قوية. تقدمت نحوى قائلة بلكنتها الصعيدية «أنت الريس بتاعنا هنا؟»، فأجبتها «نعم» ... فاستطردت قائلة «مش طلبت منا من أشهر قليلة أن ننتقل إلى هنا؟»، فأيدت كلامها ... فأكملت قائلة «بتغير كلامك ليه دولجت؟»، فشرحت لها أن التغيير طرأ عند البدء فى التنفيذ، وبطلب من الجهة المنفذة ... فقالت لى «الريس لما يتكلم تبقى كلمته واحدة ... أنا مش همشى من هنا ... لو عاوزنى أمشى يبقى هات البلدوزرات تعد البيت عليّ» ... وهنا انزعج، جميع من حولى من رجال المحافظة، وحتى من بعض الأهالى ... وعلت الهمهمات ... فلم يسكتها إلا صوتى وأنا أجيبها «حاضر يا حاجة». استقليت سيارتي، وغادرت المكان ... ولم تكن إلا ساعة، حتى حضر أبناؤها، وعدد من أحفادها، إلى مكتبى فى ديوان عام المحافظة، للاعتذار عما بدر من «العمة»، مفسرين سكوتهم فى ذلك الموقف، بأنها من ربت ... ومن علمت ... ومن حملت الهم ... حتى كبروا وأصبحوا «رجالا بشنبات»، على حد تعبيرهم، بل إنها من ربت حتى الأحفاد ... فلا يجرؤ أحدهم على الاعتراض على أى من أفعالها. إلا أن نظرتى للأمر كانت مختلفة تماماً ... فالحقيقة أننى لم أر سبباً لاعتذارهم ... فالعمة لم يبدر منها ما يسىء إليّ، على النقيض من ذلك، فأنا أراها محقة فى كل ما قالت ... بل إننى احترمت شموخها وكبرياءها ووجهة نظرها. وعليه فقد راجعت جهة التنفيذ، وطلبت منهم البحث عن بدائل لإنشاء محول الكهرباء، حتى لا نضطر لنقل الأهالى مرة أخرى. مر عام بعد هذا الموقف، وانتقلت «العمة» العظيمة إلى جوار ربها... وعند خروجى من العزاء، التف حولى عدد من أبنائها، ليؤكدوا لى تقديرهم لرد فعلى منذ عام، وعلى أنهم على استعداد لنقل المنزل بدءا من يوم غد. فشكرتهم على مبادرتهم، إلا أننى رفضت ... ففضلاً عن اقتناعى بوجهة نظرها، حينئذ، فقد أردت أن أبقى على عهدى معها، حتى بعد رحيلها. ومازالت ذكرى تلك «العمّة» بنظراتها الثاقبة ... وقوة شخصيتها... واحترام ابنائها وأحفادها لها... تمثل، فى ذهني، رمزاً لشموخ المرأة المصرية والصعيدية. Email: sfarag.media@outlook.com |