العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

كان خطاب اليونسكو، آخر المحطات التى وصلها قطار حملة الهجوم، التى تعرضت لها فور بدء مشروعات تطوير الأقصر.

فرانشيسكو بندرين - 1
 

لواء د. سمير فرج

 16 مايو 2024


ثلاث مرات بكيت فيها فى حياتى، اثنتان منها سالت فيهما دموعى، أما الثالثة، فبكت فيها روحى، وإن كبحت الدموع. أما المرتان الأوليان، فكانتا فى التاسع من يونيو من عام 1967، وأنا على جبهة الحرب، على الضفة الشرقية لقناة السويس، أرى علم العدو الإسرائيلى وقد رفع على الضفة الغربية للقناة، بعد احتلال سيناء، وأسمع خطاب تنحى الرئيس جمال عبدالناصر. وكانت المرة الثانية التى بكيت فيها بذات الحرقة، يوم أن انتقلت أمى، رحمة الله عليها، إلى جوار ربها، وكأنها أفلتتنى من يدها، فضاعت خطواتى، رغم كونى ضابطاً فى القوات المسلحة، حينها.

أما المرة الثالثة، فكانت عندما تعرفت على اسم السيد فرانشيسكو بندرين، رئيس مركز التراث العالمى، باليونسكو،لأول مرة،من خلال خطابه الرسمى، الموجه لى، بصفتى الرسمية، كمحافظ للأقصر، وكمسئول عن أعمال التطوير بها.ذلك الخطاب الذى كانت قراءته أحد أسوأ لحظات حياتى، لما حمله من تهديد، صريح، بشطب آثار الأقصر من قائمة التراث العالمى، إن لم تتوقف أعمال تطوير ساحة معبدالكرنك، على الفور. ذلك المشروع الذى كان واحداً من نحو 82 مشروعا آخر، بدأتها ضمن خطة التنمية الشاملة لتطوير الأقصر، فى الفترة، التى توليت فيها مسئوليتها، من 2004 وحتى 2011، لتحويل الأقصر إلى متحف عالمى مفتوح.

كان خطاب اليونسكو، آخر المحطات التى وصلها قطار حملة الهجوم، التى تعرضت لها فور بدء مشروعات تطوير الأقصر، خاصة مشروع تطوير ساحة الكرنك، حملة تكاتفت فيها جهود الراغبين فى وقف مشروعات التطوير، لمنعى من استكمال المسيرة التى بدأت بالنجاح فى نقل سكان القرنة المقيمين فوق المقابر الأثرية، إلى مدينة القرنة الجديدة، خاصة بعد إصرارى على إتمام أعمال تطوير الأقصر، بكل مراحلها، من تخطيط وتنفيذ، بأياد مصرية خالصة. وكان أبرز المعارضين، أعضاء البعثة الفرنسية، لما تضمنه مشروع التطوير من نقل الاستراحة الخاصة بهم لموقع آخر، بعيداً عن ضفاف النيل.

تجاوز عدد الخطابات المعادية لى، ولمشروعات تطوير الأقصر، 50 خطاباً، دارت جميعها حول معنى واحد، متفق عليه، وهو أن الأقصر قد تولى رئاستها، أحد جنرالات الجيش، الذى سيتسبب فى تشويه المكان الأثرى، بانعدام خبرته! ولما لم يكن قبول الظلم والهزائم، من طبائعى، فما كان منى، بعد تلقى الخطاب، إلا أننى رددت عليه، فى ذات اليوم، داعياً السيد بندرين، لزيارة الأقصر، على رأس بعثة من متخصصى اليونسكو، ليشاهدوا، على أرض الواقع، أعمال التطوير الجارية فى الأقصر، على أن أوافق، بعد الزيارة، على أى قرار يتخذه اليونسكو، بناءً على تقرير لجنته! والحقيقة أن بندرين رد بنفس السرعة، وشكل لجنة لزيارة الأقصر، وبحث الشكاوى المقدمة، تكونت من الدكتور كريستوفر يانج، عالم الآثار البريطانى المتخصص فى إدارة المواقع الأثرية، والسيد رون فان أورس، رئيس قسم البرامج المتخصصة بمركز التراث العالمى، والمتخصص فى تخطيط المواقع التراثية، وهو إيطالى الجنسية.

فور وصولهم إلى الأقصر، التقيتهم بمكتبى، لعرض خطة تطوير الأقصر،فاطلعوا، بأعينهم، من خلال الصور التوثيقية، على موقف ساحة معبدالكرنك، قبل بدء أعمال التطوير، تلك الصور، البشعة، التى رأيتها، على الحقيقة، فور وصولى إلى الأقصر، ورأوا سيطرة العشوائيات على المشهد؛ فها هى عمارات سكنية من ثلاثة طوابق أمام المعبد، وبازارات متناثرة أمامه، وقطعان الماشية تجول فى الساحة، التى تحولت إلى موقف لعربات الحنطور، والحافلات.فضلاً عن مبنى، بالطوب اللبن، عند المدخل، مباشرة، يسمى بيت لوجران، نسبة إلى الأثرى الفرنسى، الذى بناه قبل مائة عام، عندما بدأت البعثات الفرنسية أعمال الترميم، لأول مرة، فى معبدالكرنك.وعلى ضفاف النيل، أمام معبدالكرنك، مباشرة، كان مقر البعثة الفرنسية، وعلى الجانب الآخر، أقيم ملعب لكرة القدم، تابع لأحد مراكز الشباب... آه والله ملعب كرة قدم، مقابل لمعابد الكرنك والأقصر،يتحول نشاطه، فى المساء، لقاعة أفراح!!

شاهد أعضاء اللجنة كل الصور، وأنا أشرح لهم، بالتفصيل،ركائز مشروع التطوير، الذى وضعه الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالى، حالياً، والذى كان،حينها، المستشار الهندسى لكل مشروعات تطوير الأقصر. وبعد ذلك، صحبتهم، فى زيارة ميدانية، للكرنك، الذى كنا قد أنجزنا ما يقرب من 25% من خطة تطويره، قبل أن نضطر لتجميد العمل، بسبب تلك الهجمة الشرسة. فلم يكن لدى شك فى سلامة خطتى، ولم أتشكك لحظة فى موافقة اليونسكو عليها، بعد الاطلاع على الحقيقة.

ولكن ما لم أتوقعه، هو تسلم الموافقة، قبل مغادرة اللجنة للأقصر، ولا أن أتسلم تقريراً يفيد بأن خطة تطوير الأقصر، بشكل عام، خطة شاملة ومتكاملة، ذات رؤية مستقبلية، تستحق الدراسة بعناية، والاحتذاء بها كنموذج للتطبيق فى مختلف المدن، والمناطق التراثية، حول العالم، لاعتمادها على رصد المشكلات، والنجاح فى إيجاد الحلول المناسبة، بشكل علمى، ممنهج، يتفق مع المبادئ الأساسية، التى يتبناها اليونسكو. وبعد عودة اللجنة لإيطاليا، تسلمت خطاباً مختلفاً، وإن كان يحمل نفس التوقيع، فرانشيسكو بندرين، بموافقة اليونسكو، رسمياً،على استكمال مشروع تطوير ساحة الكرنك، بل وبرغبته فى زيارة الأقصر، لمشاهدة المشروعات فى الواقع.

وبعد عامين من تلك الواقعة، حصلت الأقصر على جائزتين دوليتين، عن مشروع تطوير ساحة الكرنك، كانت إحداهما من منظمة اليونسكو، والتى تسلمتها، بصفتى محافظاً للأقصر،خلال فعاليات المؤتمر السنوى للمنظمة، الذى انعقد، حينها، فى البرازيل. أما عن زيارة بندرين للأقصر، وتفاصيل ما فعله لأجلها، فسأسردها على حضراتكم، فى الأسبوع القادم، بإذن الله.



Email: sfarag.media@outlook.com