العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
اتخذنا مقاعدنا فى منتصف القاعة، تقريباً، وانفرج الستار، وظهرت كوكب الشرق، غاية فى الأناقة والوقار، كعادتها، وحيت الجمهور، الذى تعالى تصفيقه، لمدة لا تقل عن خمس دقائق، كانت كفيلة بأن تؤكد لى أن ما أعيشه، واقعً وليس خيالا!.
|
أم كلثوم.. وأنا
لواء د. سمير فرج
|
19 يوليو 2018
|
أعتبر نفسى واحداً من جيل المحظوظين، الذين عاصروا عمالقة الفن المصري،
عبدالوهاب، وعبدالحليم، ونجاة، وشادية، وعلى القمة تربعت، كوكب الشرق، أم
كلثوم، ليس فى مصر، فقط، وإنما فى أرجاء الوطن العربى كله. اعتلت عرش
الغناء، ووحدت الأمة العربية، من الخليج إلى المحيط، فى الخميس الأول من كل
شهر، حول الراديو للاستماع لحفلها الشهري، فضلاً عن الوافدين من جميع أنحاء
الجمهورية، ومن البلاد العربية، لحضور الحفل، ومن بينهم والدي، رحمة الله
عليه، الذى طالما تمنيت، فى طفولتي، أن يصطحبنى معه يوماً، لولا اقتصار
الحضور على الكبار فقط.
ومرت الأيام، والتحقت بالكلية الحربية، وفاجأنى أحد أصدقاء عائلتي، من
المقيمين بالقاهرة، بدعوتى لحضور حفل أم كلثوم، مع حفظ الألقاب، على مسرح
سينما قصر النيل فى القاهرة، فكانت تلك واحدة من أجمل مفاجآت حياتي. اليوم
يتحقق حلم طفولتي، الذى لطالما داعب خيالى وأنا طفل صغير فى بورسعيد، كم
تمنيت أن أراها رأى العين، بحضور إحدى حفلاتها، كم تمنيت ألا أكتفى
بالاستماع إليها فى الراديو. كم تمنيت أن أرى بعيني، ما كنت أسمع عنه دوماً
من أبي، عن روعة حفلاتها، وأناقة الحضور، الذين يرتدون أحلى ثيابهم، لحضور
أهم حدث فنى فى الوطن العربي، كانت روائح برفانات السيدات والرجال، تستقبلك
على الباب الخارجى للحفل، وكانت أناقتهم تضاهى أحدث صيحات الموضة فى
أوروبا، وتنظيم الحفل يتفوق على أى احتفال موسيقى عالمي.
اتخذنا مقاعدنا فى منتصف القاعة، تقريباً، وانفرج الستار، وظهرت كوكب الشرق،
غاية فى الأناقة والوقار، كعادتها، وحيت الجمهور، الذى تعالى تصفيقه، لمدة
لا تقل عن خمس دقائق، كانت كفيلة بأن تؤكد لى أن ما أعيشه، واقعً وليس خيالا!.
شدت كوكب الشرق بأولى أغانيها، فى تلك الليلة، أنساك، تلحين الملحن الشاب،
آنذاك، بليغ حمدي، وفى كل مرة تكرر مقطع «كان لك معايا.. أجمل حكاية فى
العمر كله، تدخل سيدة عشرينية، تجلس أمامي، فى نوبة بكاء شديد، فتحاول
والدتها، الجالسة بجوارها، مواساتها بكلمات حانية، كفاية عياط.. عمر العياط
ما هيرجعه. وازداد بكاء الشابة الصغيرة، مع كلمات الأغنية، سنين ومرت زى
الثوانى فى حبك أنت، ولم تفلح محاولات الأم لتهدئة ابنتها المكلومة، التى
بدا أن ارتداءهما السواد، ليس نابعاً من أناقتهما، فحسب، ولكن لحزنهما على
فقيد غال. وانتهت الوصلة الأولى، ولم تعد هذه الشابة، أو والدتها، لاستكمال
الوصلة الثانية من الحفل. ومنذ ذلك اليوم، ارتبطت أغنية أنساك» لدي، بمعنى
الوفاء، وفى كل مرة أسمعها، أتذكر وجه هذه الأرملة الصغيرة.
وكان من ضمن ما غنت أم كلثوم، فى هذه الليلة، واحدة من أحب الأغانى لقلبي،
وهى جددت حبك ليه، من كلمات أحمد رامي، والتى عرفت السبب وراءها، بعد ذلك
الحفل بسنوات، خلال رحلتى مع الوفد المصري، لحضور الأسبوع الثقافى المصرى
فى الصين، وخلال حديثى مع صديقى الدكتور فوزى فهمي، عميد أكاديمية الفنون،
عن حبى لتلك الأغنية، حكى لى أن الشاعر الكبير أحمد رامي، كان متيماً بحب
الآنسة أم كلثوم، بينما أعلنت هى خطبتها إلى شريف باشا صبري، خال الملك
فاروق، إلا أن الأسرة المالكة، ثارت لذلك الخبر، رافضة أن ينضم للبلاط
الملكى واحدة من عامة الشعب، واضطر الملك فاروق إلى رفض الزيجة، فكتب أحمد
رامى هذه الأغنية، وأحببتها أكثر وأكثر، بعدما عرفت أن كاتبها عبر عن
مشاعره فيها، ولم يعتمد، فقط، على ملكة نظم الشعر التى حباه الله بها.
أما الأغنية الثالثة، فكانت أنت عمري، والتى كنت أعشقها حتى ارتبطت فى
وجدانى بذكرى أليمة على نفسي، فلم أقو على سماعها منذ ذلك الحين. تعود
القصة إلى تخرجى فى الكلية الحربية، ضابطاً صغيراً، فى السابعة عشرة من عمري،
لأنضم، فوراً، لصفوف القوات المصرية المحاربة فى اليمن. وبوصولى إلى صنعاء،
تلقينا أوامر بتحرك الكتيبة لمنطقة اسمها بيت السيد، لفتح الطريق للقوات
المصرية المحاصرة هناك. ووصلنا صباح يوم خميس، وبدأ الاستعداد للهجوم، ومع
آخر ضوء للنهار، كُلفت بقيادة فصيلة، مكونة من خمسين جندى مشاة ومدافع
الدعم، لاعتلاء قمة التبة السوداء ونجحت فى مهمتي، ونشرت جنودى فى مواقعهم.
إلا أن العواصف الثلجية فى تلك الليلة، جعلتنا محاصرين على قمة الجبل.
وأغلقت جهاز اللاسلكي، حتى لا تنفد بطارياته، لأننا لا نعلم متى سيأتينا
الدعم والامداد. والتففنا حول الراديو الويلكو الصغير، الذى اشتريته من
صنعاء، فور وصولى إليها. ونجحنا فى التقاط موجات القاهرة، التى كانت ساهرة
فى تلك الليلة، تترقب أنت عمري... لقاء السحاب بين صوت كوكب الشرق، وألحان
موسيقار الأجيال، عبد الوهاب، وجاء صوت المذيع جلال معوض، يصف أجواء تلك
الليلة الجميلة، التى تعيشها مصر، والعالم العربي، مع أجمل أغانى العصر،
بينما نحن عالقون فوق جبال اليمن. فصارت، تلك الأغنية الرائعة، للأسف، تجلب
إلى نفسى ذكريات أليمة، من حرب، وحصار، واستشهاد جنودي، وهى أسوأ لحظات تمر
على أى مقاتل.
ومنذ أشهر قليلة، عندما أعلن الرئيس السيسي، أن مصر لن تشارك بقوات برية،
ضمن قوات التحالف المقاتلة فى اليمن، شكرت ربي، وتنفست الصعداء، أننا لن
نخسر، مرة أخرى، الآلاف من الشباب المصري، ولن يكون هناك ضابط فى مقتبل
عمره، يسمع أغنية جديدة، فيكرهها لأنها تمثل أحلك وأسوأ لحظات حياته.
Email: sfarag.media@outlook.com
|