العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
مازال اختبار أمى، واحداً من أهم محطات حياتى، ففضلاً عن المعلومات الهائلة التى تعلمتها من ذلك الكتاب.
|
عيدك يا أمى أجمل الأعياد
لواء د. سمير فرج
|
17 مارس 2022
|
بضعة أيام تفصلنا عن الاحتفال بأجمل أعياد الدنيا، عيد الأم، فمن منا لا يحمل لأمه إلا أجمل الذكريات وعظيم الامتنان. فالأم هى أول موجه للطفل فى بداية حياته، وهى من يشكل وجدانه وأخلاقه وثقافته، وقد أتاح لى عملى كمحافظ للأقصر، لمدة سبع سنوات، أن أقترب من نموذج الأم الصعيدية، فلمست بنفسى مكانتها الرفيعة، العالية، بين جميع أفراد العائلة، بما غرسته فى نفوسهم من عادات، وتقاليد،سامية، قد لا يدركها البعض.
أما أنا، فأمى، رحمة الله عليها، هى معلمى الأول، التى بفضلها اجتزت كل اختبارات الحياة، بتفاوت صعوباتها وتحدياتها، حتى أننى أعجز، بكل الفخر، عن حصر المواقف والأحداث التى تعلمت من خلالها دروساً جديدة، وحتى وإن تذكرتها جميعاً، فلن تكفى السطور لسردها، فاسمحوا لى أن أسترجع معكم واحدة من العلامات الفارقة فى حياتى، عندما كنت فى الثانية عشرة من عمرى، وأخبرت أمى، حينها، برغبتى فى الاشتراك فى المعسكر الدولى للكشافة المقرر إقامته فى الفلبين، إذ كنت رئيساً لفرقة الكشافة فى مدرسة بورسعيد الثانوية، وكنت أرفع العلم فى طابور الصباح، بينما يؤدى سعد أبو ريدة، رحمة الله عليه، التحية العسكرية ... وهو ما كان مصدر فخر وعز لنا.
أخبرت أمى برغبتى فى الاشتراك، وأنا أعلم مسبقاً، أن الموضوع سيثير بعض القلق لديها، فالرحلة طويلة، 45 يوماً، عن طريق البحر، تستغرق رحلتى الذهاب والعودة 30 يوماً منها، بينما مدة المعسكر 15 يوماً أخرى. المشكلة الأكبر كانت فى قيمة الاشتراك والتى تحددت بمبلغ 45 جنيهاً، وهو ما يوازى، آنذاك، راتب 3 أشهر لموظف من حاملى الشهادات الجامعية!استمعت لى أمى، ونظرت إليّ قبل أن تبشرنى بموافقتها على المشاركة ... طرت فرحاً من هول المفاجأة، ولكنها استطردت قائلة: موافقتى مشروطة ... سأعطيك كتاباً لتقرأه، ثم تلخصه ... وإن اجتزت ذلك الاختبار بنجاح، فستسافر حينئذ.
وصحبتنى أمى، بالفعل، إلى المكتبة، واختارت لى كتاباً بعنوان: سر تقدم السكسونيين، وطلبت منى تلخيصه فيما لا يزيد على عشر صفحات،فى مدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، وإلا فاتنى الموعد الأخير للاشتراك فى المعسكر. أمسكت الكتاب فى ذهول، وفتحت آخر صفحاته، فإذا ترقيمها 450!!! كيف لى أن ألخصها فى عشر فقط، مع الالتزام بتعليماتها بعدم إغفال أى من أفكاره الأساسية. لم يكن أمامى خيار سوى المحاولة، والاجتهاد، فأنا أعلم، يقيناً، بأنه لا سبيل لإثنائها عن قرارها. ولما كانت والدتى ناظرة المدرسة الوحيدة للبنات فى مدينة بورسعيد، فقد أخبرت أحد مدرسى المدرسة بما كان منى ومنها، وطلبت منه الإشراف على ذلك الاختبار. أتذكر جيداً نظراته إلى الكتاب، والذهول الذى أصابه كما أصابنى، قبله، وهويصيح «يا أبلة الناظرة ملقتيش كتاب غير ده؟»، فضحكت قائلة «المرة الجاية أعطه كتاب أرسين لوبين».
شرعت فورا فى قراءة الكتاب، الذى يحكى تاريخ الإنجليز منذ عصر البخار، إلى عصر المستعمرات فى الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، وسر نجاحهم وتطورهم. فكان الكتاب، بالنسبة لطفل فى عمرى، طويلاً، وصعباً للغاية، ناهيك عن حجم المعلومات التى يحتويها، والتى يجب أن ألخصها دونما إخلال بالمعنى، أو تطويل.ونجحت فى الاختبار، واعتمدت أمى نتيجته، بالوفاء بوعدها، وسافرت، بالفعل، إلى الفلبين، وعدت منها أكثر نضجاً، وأكثر اعتماداً على النفس. وعرفت،لاحقاً، أن أمى باعت من نصيبها فى إرث والدتها، لتدفع تكاليف تلك الرحلة. ومرت الأيام، وتخرجت فى الكلية الحربية، وبُعثت، بعدها بسنوات، للدراسة فى كلية كمبرلى الملكية فى إنجلترا، لمدة عام، تلك الدولة التى تعرضت لتاريخها، وسر تقدمها، على يد والدتى، من خلال كتاب سر تقدم السكسونيين، وخلال النصف الأول من العام الدراسى، طلبت الكلية، من كل طالب، اختيار كتاب من المكتبة لتلخيصه، فذهبت للمكتبة، واخترت كتاب هنرى كيسنجر كيف تُصنع السياسة الخارجية الدولية، المؤلف فى أكثر من ثلاثمائة صفحة، ولم نكن قد تدربنا، من قبل، على الطرق العلمية المتبعة فى التلخيص، فوجدتنى أنظر إلى أستاذى، وكأننى أبحث فى وجهه عن ملامح أمي. قرأت الكتاب بشغف، واستخلصت منه أهم الأفكار والدروس، ووضعتها فى ملخص صغير، عرضته على أستاذى، فحصلت على تقدير امتياز، لأصبح بذلك واحداً من خمسة طلاب، فقط، ممن حصلوا على هذا التقدير المرتفع، بل وقررت الكلية عرض ملخصات أولئك الطلاب الخمسة، على جميع طلبة الكلية. استرجعت يومها ذكرى أمى، رحمها الله، وأفضالها فى تكوين شخصيتى وإبراز قدراتى، فتعجبت من بعض أمهات هذا الزمان، اللاتى يتبارين لتسليح ابنائهن بأحدث أجهزة للألعاب الإلكترونية. أعلم أن الزمان تغير، وأن التكنولوجيا هى سمة العصر الحديث، ومواكبتها أصبحت ضرورة لا غنى عنها، إلا أن ذلك لا يتعارض مع أهمية الحفاظ على بعض من أساليب التربية التقليدية، التى من شأنها غرس المبادئ، وصقل القدرات لدى الأطفال.
مازال اختبار أمى، واحداً من أهم محطات حياتى، ففضلاً عن المعلومات الهائلة التى تعلمتها من ذلك الكتاب، والتى دفعتنى لحب القراءة، إلا أننى أدين لهذا الاختبار بالفضل لما علمنى من مبادئ أولية فى الحياة ... كان أهمها الاجتهاد والمثابرة لتحقيق الغاية ... رحمة الله عليك يا أمى ... يا من لها أدين بالفضل فى كل لحظة من حياتى.
Email: sfarag.media@outlook.com
|