فى زيارة خاطفة لبورسعيد

كلما ضقت من أجواء القاهرة، وضوضائها، وزحام حياتها اليومية، لا أجد لنفسى مخرجا إلا معشوقتى، وحبيبتى بورسعيد، أنطلق إليها على طريق 30 مايو، الجديد، فأصلها، من منزلى بالقاهرة الجديدة، فى 120 دقيقة، فقط، عبر طريق عالمى مكون من 6 حارات، على كل جانب، يحيطها حارات أخرى مخصصة للخدمات والنقل. وما أن أصل لمدخل بورسعيد، حتى أنعطف يسارا، إلى المقابر، وأترجل من سيارتى، حاملا كرسيا صغيرا منطويا، لا يفارق سيارتى لذلك الغرض، فأجلس أمام قبر والدتى، أتحدث إليها، وأغسل فى حديثى معها كل هموم الدنيا، وأشكرها على جهدها فى تربيتى وتعليمى، حتى أصبحت ما أنا عليه اليوم. وبعدها أزور قبر والدى، ليجمعنى به حوار مماثل، أشعر خلاله أنهما يسمعانى، بل ويجيبانى، وعلى وجهيهما ابتسامتهما الرقيقة، التى لا تفارق عينى.

ساعة كاملة قضيتها فى صحبتهما، ثم خرجت لشاطئ البحر المتوسط، المواجه للمقابر، لأملأ صدرى من هواء بورسعيد النقى، ثم توجهت لمحطتى التالية، وهى لسان ديليسبس، أجمل مكان فيكِ يا مصر، على مدخل قناة السويس، حيث جلست لمدة ساعتين، بينما كان أجمل فسحة لى فى الطفولة، تابعت خلالهما سفن العالم تعبر القناة. وتابعت يومى إلى وجهتى الثالثة، وهى سوق السمك، فى الحى الإفرنجى، الذى تتجاور فيه محلات أسماك بحيرة البردويل، التى تعد من أحسن خمس بحيرات أسماك فى العالم، والتى ظلت تحت سيطرة العدو الإسرائيلى، لمدة 6 أعوام، بعد احتلال سيناء فى حرب 67، استفادت خلالها بتصدير كامل إنتاج البحيرة المميز إلى أوروبا، من أسماك البورى والموسى والدنيس، التى أتحدى أن تجد لها مثيلا فى العالم كله، ولم تُدخِل منها سمكة واحدة إلى إسرائيل.

وفى العقود الماضية تعرضت بحيرة البردويل، ضمن 11 بحيرة فى مصر، لعمليات التعدى والتجفيف، وإنشاء مزارع غير قانونية، حتى قرر الرئيس السيسى الإشراف بنفسه على تطهير وتطوير هذه البحيرات، فكان منها بحيرة البردويل، وبحيرة المنزلة، التى تمد ثلاث محافظات، بورسعيد ودمياط والدقهلية، بأجود أنواع الأسماك وأرخصها، مثل البلطى الأزرق للشوى والأبيض للقلى. ووصلت إلى سوق السمك، لأشترى سمك موسى البردويل، فلاحظت قلة المعروض منه، ولما سألت عن السبب، عرفت أن معظم الإنتاج يُصدر، حاليا، لأوروبا، بعد زيادته المطردة، الناتجة عن تطوير البحيرة وتعميقها، وتطهير البوغاز على البحر المتوسط، وحفرها على أعماق مختلفة، لتناسب توالد كل الأنواع، فضلا عن تكامل تلك الجهود ببناء مصنع للفوم، ومصنع للثلج، ومطار جديد للتصدير، بالإضافة لتصنيع الدول الإسكندنافية وأوروبا لعدد100 مركب جديدة للصيد، فى ترسانة التمساح التابعة لقناة السويس، مزودة جميعها بأحدث المعدات وأجهزة السونار لتحديد أماكن أسراب الأسماك.

ومع نسمات فجر كل يوم،يصل الصيد الوفير، ليتم فرز الأسماك فى محطة كبيرة، ثم يغلف فى عبوات الفوم، بواسطة الثلج، وتطير الطائرات لنقل هذه الأسماك فى العاشرة من صباح كل يوم إلى أوروبا، وأصبح دخل بحيرة البردويل، اليوم، يماثل عشرة أضعاف ما كان عليه فى الماضى، وصار إنتاجها يحتل مراكز الصدارة فى الأسواق الأوروبية. ورغم تصدير معظم إنتاج البحيرة إلى أوروبا، وهو ما يؤثر نسبيا على حصة المتاح محليا، إلا أن أهالى بورسعيد يدركون أهمية التصدير، ويقرون بأنه رغم انخفاض نسبتهم، إلا أن ارتفاع جودتها يعوض ذلك. وقد شهدت على ذلك بنفسى، بعد شراء اثنين كيلو من سمك موسى الرائع، واثنين كيلو من سمك البورى، ودخلت للفرن المجاور فى الشارع الجانبى، لشوائهم على البلاطة بالردة، لأستمتع بأشهى وجبات السمك المشوى، الذى تشتهر به بورسعيد ودمياط.

واستكملت طريقى داخل السوق، لشراء البلطى، من بحيرة المنزلة، أو كما يطلق عليه البورسعيدية الشبار أو الجوابى، وهو سمك البلطى الصغير، المكتظ بالبطارخ، فى هذا الوقت من العام، ويعد الوجبة الشعبية الرئيسية لأهالى بورسعيد ودمياط والمنزلة والمنصورة. وتحدثت مع البائع، سائلا عن أفضل ما عنده، فأجابنى ببساطة، أبهرتنى، «والله كله حلو، بعد المعجزة اللى حصلت السنة اللى فاتت... تخيل حضرتك بحيرة المنزلة كانت قربت تضيع مننا، لولا الريس السيسى، الله يكرمه تدخل وطهر البحيرة... المزارع السمكية اللى كانوا الأهالى عملوها دمرت البحيرة، ومنهم من ردموا البحيرة، وعملوها مصبا لمياه الصرف الصحى والزراعى، وكانت مرتعا للخارجين على القانون... بس كل ده انتهى... ده إحنا شفنا كراكات مخصوص من بلاد برة بتعمق البحيرة، والبوغاز اتفتح لتجديد المياه، وشالوا كل التعديات، ورجعت بحيرة المنزلة أحسن من الأول، ده حتى الجيش عمل طريقا دائريا طوله 14 كيلو حول البحيرة ليمنع التعدى نهائيا ... ورجعنا ناكل أحلى شبار فى الدنيا والله، ورجعت الأفران تشتغل كل يوم».

وعدت من بورسعيد، فشاهدت، فى نفس الليلة، السيد الرئيس يتابع مع أعضاء الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أعمال التطوير الجارية فى بحيرات مصر الإحدى عشرة، التى كنت شاهد عيان، فى صباح ذلك اليوم، على نتائج تطوير وتطهير اثنتين منهما وهما بحيرتا المنزلة والبردويل، أكبر، وثالث أكبر البحيرات المالحة فى مصر. إن خيرات مصر عظيمة والله، ولم يكن ينقصنا إلا الحفاظ عليها، وحسن إدارة مواردها وثرواتها لتغطية احتياجات المواطنين، ولتحقيق كل الخير لأبناء مصر.