العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
وقد فرض التطور التكنولوجى الكبير الذى نعيشه فى هذا العصر، حدوث تطور مقابل فى مجال التحليل الاستراتيجى.
|
أبعاد التحليل الاستراتيجى
لواء د. سمير فرج
|
16 مارس 2024
|
فى ظل اشتعال الأحداث فى مختلف أنحاء العالم، وبشكل خاص فى منطقة الشرق الأوسط التى أصبحت على سطح صفيح ساخن، تتزايد الحاجة إلى اللجوء للتحليل الاستراتيجى كوسيلة لتحليل وفهم وتوقع السيناريوهات المتعددة فى ظل ذلك التعاقب المتسارع للأحداث.
وفى الوقت الذى يعتمد فيه التحليل السياسى على دراسة وربط الأحداث السياسية فى مختلف أنحاء العالم، ويعتمد التحليل العسكرى على دارسة المدارس العسكرية وقوانين القتال، التى تنقسم فى العالم إلى مدرستين الشرقية التى تأسس على مبادئها حلف وارسو، وتزعمها الاتحاد السوفيتى، وتسلمت منه روسيا الإرث.. ومدرسة الفكر العسكرى الغربى لدول حلف الناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، فإن التحليل الاستراتيجى هو العلم الذى يجمع بين كل من النوعين السياسى والعسكرى.
وقد فرض التطور التكنولوجى الكبير الذى نعيشه فى هذا العصر، حدوث تطور مقابل فى مجال التحليل الاستراتيجى، خاصة مع التأثر الكبير فى تطور مجال التسليح العسكرى ومجال التحليل العسكرى ومن ثم التحليل الاستراتيجى.
ففى العقيدة الشرقية، يعتمد التحليل على دراسة كافة جوانب الموقف والأوضاع والإمكانات، للخروج باستنتاج أو مقترح واحد، على أساسه يبنى القرار.. أما فى العقيدة الغربية، فإن التحليل يبنى على أساس تقديم عدة أطروحات، يقابلها بدائل للحلول المتاحة، موضحًا مميزات وعيوب كل حل، وفى النهاية يقدم التحليل توصية بأنسب الحلول الممكن اتباعها.
وظل هذا المفهوم، لفترة طويلة معمولا به إلى أن ظهر مفهوم آخر، أطلق عليه «التحليل الاستخباراتى»، القائم على أساس تقديم تحليلات عديدة لمتخذ القرار، لا يلتزم فيه متخذ القرار برأى واحد محدد، وإنما يسمح لنفسه بالتجول بين بدائل عدة. وهو فكر متقدم، بالطبع، ابتدعته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «CIA»، وبدأت تعمل به كافة الأجهزة الاستخباراتية فى العالم، وخاصة تلك المتعاونة مع وكالة الاستخبارات المركزية. وهذا التحليل يرضى جميع الأطراف، بنسبة كبيرة، إلا أنه يفتقر إلى التحليل الأكثر قبولًا، أو إلى رأى محدد يمكن للقائد العمل به، وهنا يصبح على القائد اتخاذ القرار الأنسب لتطبيقه.
وفى هذه الأيام، ومع تطور آليات تكنولوجيا العصر، أصبحت الحاسبات الآلية، من خلال برامج وتطبيقات متطورة، قادرة على جمع عدد هائل من المعلومات والبيانات والأرقام، وتطور الأمر لدرجة أصبحت تسمج بظهور كافة المعلومات فى شكل مؤشرات بيانية، والقيام بمقارنات حسابية بينها، تشمل فترات زمنية مختلفة، وتخرج فى النهاية بنتائج محددة، بما يوفر المزيد من الجهد، الذى كان يبذل فى عملية المقارنات سواء بين البيانات الحالية أو البيانات السابقة. ومن هنا قادت مراكز الدراسات الاستراتيجية، ومراكز البحوث، فكرًا جديدًا يعتمد على تقديم البيانات والأرقام والأحداث من خلال سرد تاريخى للأحداث، دون الوصول إلى نتائج محددة، ويترك فيها للقارئ أو المتلقى حرية الاختيار.
ورغم المزايا الكبيرة فى هذا الأمر إلا أنه فى البداية واجه العدد من الانتقادات، لأنه لا يقود متخذ القرار إلى نتائج محددة، وبالتالى ربما ينظر إليه على أنه قد فشل فى تقديم المشورة المطلوبة أو القيام بالدور المنوط به.
ولكن شيئًا فشيئًا، بدأ البعض يقتنع بأهمية أن يستخرج الدارس، أو القارئ، أو صانع القرار، القرار الذى يناسبه، وفقًا للتحليلات الناتجة عن المعلومات الواردة إليه. وبدأت هذه الأفكار تنتشر فى العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية، التى تقول إن القارئ أو متخذ القرار لن يفرض عليه الرأى بعد اليوم، فأمامه المعلومات والبيانات ليدرس هو ويحلل، ولقد استهوت هذه الطريقة بعض الشباب فى المجتمع الأوروبى، الذى يرفض وصاية مراكز الدراسات الاستراتيجية، أو فكر المحللين الاستراتيجيين، وكان أبسط مثال لذلك، هو كل التحليلات التى تمت، قبل استفتاء البريطانيين، حول الاستمرار فى الاتحاد الأوروبى وسوقه المشتركة، لتظهر كل التحليلات الصادرة عن مراكز الدراسات فى الصحف البريطانية، التى قدمت البيانات والأرقام والإحصاءات للمجتمع البريطانى، خاصة للشباب، وتركت لهم حرية اتخاذ الرأى. وكانت الصدمة عند ظهور نتائج التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.
وبناء عليه، أتوقع أن نرى فى الأيام القادمة، العديد من المقالات التى تحمل عنوان التحليلات الاستراتيجية، والتى تعرض الموضوعات بشكل متكامل، مصحوبًا بالأرقام والبيانات، وحتى خلفياته التاريخية، دون أن تنتهى إلى رأى نهائى، تاركة للقارئ حرية استنباط تحليله الشخصى.. وبهذا يكون التطور فى الاعتماد على القارئ أو الدارس فى مجال التحليل، وليس المنشأة أو مراكز الدراسات الاستراتيجية.
ورغم رواج ذلك الفكر الجديد بشكل كبير إلا أنه قد حدث انقسام لدى مراكز الدراسات الاستراتيجية حول تطبيقه فى بعض الحالات، خاصة تلك المصبوغة بأبعاد سياسية واستراتيجية، وهو ما ظهر مثلا، فى معالجة المشكلة الأمريكية الإيرانية، حول انسحاب ترامب من الاتفاق النووى ١٦، فلجأ معظم المحللين والمفكرين، إلى عدم الوصول إلى تحليل نهاية الأحداث، وخاصة مع تصاعد الحرب الكلامية بين الطرفين، رغم العلم المسبق بتفوق القوة العسكرية الأمريكية، فى حالة حدوث صدام مسلح لتأمين مضيق هرمز.
أما أجهزة صنع القرار والأجهزة الاستخباراتية فى العالم، فقد سارت على النهج القديم والخاص بتقديم الرأى التحليلى؛ سواء رأى واحد أو أكثر من رأى.
أما على مستوى مجموعات معاونة القادة على اتخاذ القرار التى يطلق عليها اسم Think Tanks، فقد رفضت تمامًا هذا التطور، وظلت مصرة على تقديم حلول واقتراحات محددة وواضحة المعالم لمتخذ القرار.
وعمومًا، فإن الأيام القادمة ستثبت لنا هل كل ما هو جديد مرفوض أو قد يقبل بعد حين. فتلك هى طبيعة النفس البشرية، وحتى عندما حاول البعض تطوير عمل الحاسبات الإلكترونية للاستفادة منها فى تقديم حلول مختلفة، ظل ذلك محصورًا فى مجال المقارنة بين الأرقام والمعدلات، مثلما حدث فى فكر بحوث العمليات الذى قدمه وزير الدفاع الأمريكى فى الستينيات، وظل العالم يعمل به حتى الآن، ولكن فى المجال الاستراتيجى سيظل العامل البشرى، مهما تطورت التكنولوجيا هو أهم عناصر اتخاذ القرار وتحليله.
Email: sfarag.media@outlook.com
|