العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
ولقد كانت أمى، رحمها الله، هى معلمى الأول.
|
أمس الأول كان عيدكِ يا أمى
لواء د. سمير فرج
|
23 مارس 2024
|
يقول الشاعر حافظ إبراهيم فى قصيدة العلم والأخلاق: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق. وأعتقد أن غالبية الشعب المصرى قد سمعوا بهذا البيت الذى عشقته عقولنا منذ الصغر.
والواقع أنه أبلغ تشبيه عن دور الأم فى حياة كل شعب. ولقد كانت أمى، رحمها الله، هى معلمى الأول، وبفضلها اجتزت كل اختبارات الحياة، ولها الفضل فيما وصلت إليه الآن. واليوم، أسترجع معكم بعض هذه العلامات.
واحدة من العلامات الفارقة فى حياتى، عندما كنت فى الثانية عشرة من عمرى، وأخبرت أمى، حينها، برغبتى فى الاشتراك فى المعسكر الدولى للكشافة، المقرر إقامته فى الفلبين، إذ كنت رئيسًا لفرقة الكشافة فى مدرسة بورسعيد الثانوية، وكنت أرفع العَلَم فى طابور الصباح، بينما يؤدى سعد أبوريدة، رحمة الله عليه، التحية العسكرية... وهو ما كان مصدر فخر وعز لنا.
أخبرت أمى برغبتى فى الاشتراك، وأنا أعلم مسبقًا أن الموضوع سيثير بعض القلق لديها، فالرحلة طويلة، 45 يومًا، عن طريق البحر، تستغرق رحلتا الذهاب والعودة 30 يومًا منها، بينما مدة المعسكر 15 يومًا أخرى. المشكلة الكبرى كانت فى قيمة الاشتراك، التى تحددت بمبلغ 45 جنيهًا، وهو ما يوازى، آنذاك، راتب 3 أشهر لموظف من حاملى الشهادات الجامعية!. استمعت لى أمى، ونظرت إلىَّ قبل أن تبشرنى بموافقتها على المشاركة... طرت فرحًا من هول المفاجأة، ولكنها استطردت قائلة: موافقتى مشروطة... سأعطيك كتابًا لتقرأه، ثم تلخصه... وإن اجتزت ذلك الاختبار بنجاح، فستسافر حينئذ.
وصحبتنى أمى، بالفعل، إلى المكتبة، واختارت لى كتابًا بعنوان: سر تقدم السكسونيين، وطلبت منى تلخيصه فيما لا يزيد على عشر صفحات، فى مدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، وإلا فاتنى الموعد الأخير للاشتراك فى المعسكر. أمسكت الكتاب فى ذهول، وفتحت آخر صفحاته، فإذا ترقيمها 450!!!. كيف لى أن ألخصها فى عشر فقط، مع الالتزام بتعليماتها بعدم إغفال أى من أفكاره الأساسية. لم يكن أمامى خيار سوى المحاولة، والاجتهاد، فأنا أعلم، يقينًا، أنه لا سبيل لإثنائها عن قرارها. ولما كانت والدتى، ناظرة المدرسة الوحيدة للبنات فى مدينة بورسعيد، فقد أخبرت أحد مدرسى المدرسة بما كان منى ومنها، وطلبت منه الإشراف على ذلك الاختبار. أتذكر جيدًا نظراته إلى الكتاب، والذهول الذى أصابه كما أصابنى، قبله، وهو يصيح: «يا أبلة الناظرة ملقتيش كتاب غير ده؟»، فضحكت قائلة: «المرة الجاية أعطه كتاب أرسين لوبين».
شرعت فورًا فى قراءة الكتاب، الذى يحكى تاريخ الإنجليز منذ عصر البخار، إلى عصر المستعمرات فى الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، وسر نجاحهم وتطورهم، فكان الكتاب، بالنسبة لطفل فى عمرى، طويلًا، وصعبًا للغاية، ناهيك عن حجم المعلومات التى يحتويها، والتى يجب أن ألخصها دونما إخلال بالمعنى، أو تطويل. ونجحت فى الاختبار، واعتمدت أمى نتيجته، بالوفاء بوعدها، وسافرت، بالفعل، إلى الفلبين، وعدت منها أكثر نضجًا، وأكثر اعتمادًا على النفس. وعرفت، لاحقًا، أن أمى باعت من نصيبها فى إرث والدتها لتدفع تكاليف تلك الرحلة. ومرت الأيام، وتخرجت فى الكلية الحربية، وبُعثت، بعدها بسنوات، للدراسة فى كلية كمبرلى الملكية فى إنجلترا، لمدة عام، تلك الدولة التى تعرضت لتاريخها، وسر تقدمها، على يد والدتى، من خلال كتاب سر تقدم السكسونيين، وخلال النصف الأول من العام الدراسى، طلبت الكلية، من كل طالب، اختيار كتاب من المكتبة لتلخيصه، فذهبت إلى المكتبة، واخترت كتاب هنرى كيسنجر «كيف تُصنع السياسة الخارجية الدولية؟»، المؤلف فى أكثر من ثلاثمائة صفحة، ولم نكن قد تدربنا، من قبل، على الطرق العلمية المتبعة فى التلخيص، فوجدتنى أنظر إلى أستاذى، وكأننى أبحث فى وجهه عن ملامح أمى. قرأت الكتاب بشغف، واستخلصت منه أهم الأفكار والدروس، ووضعتها فى ملخص صغير، عرضته على أستاذى، فحصلت على تقدير امتياز، لأصبح بذلك واحدًا من خمسة طلاب، فقط، ممن حصلوا على هذا التقدير المرتفع، بل قررت الكلية عرض ملخصات أولئك الطلاب الخمسة على جميع طلبة الكلية. استرجعت يومها ذكرى أمى، رحمها الله، وأفضالها فى تكوين شخصيتى وإبراز قدراتى، فتعجبت من بعض أمهات هذا الزمان، اللاتى يتبارين لتسليح أبنائهن بأحدث أجهزة الألعاب الإلكترونية. أعلم أن الزمان تغير، وأن التكنولوجيا هى سمة العصر الحديث، ومواكبتها أصبحت ضرورة لا غنى عنها، إلا أن ذلك لا يتعارض مع أهمية الحفاظ على بعض أساليب التربية التقليدية، التى من شأنها غرس المبادئ، وصقل القدرات لدى الأطفال.
مازال اختبار أمى واحدًا من أهم محطات حياتى، ففضلًا عن المعلومات الهائلة التى تعلمتها من ذلك الكتاب، والتى دفعتنى إلى حب القراءة، إلا أننى أدين لهذا الاختبار بالفضل لما علمنى من مبادئ أولية فى الحياة... كان أهمها الاجتهاد والمثابرة لتحقيق الغاية... رحمة الله عليكِ يا أمى... يا مَن لها أدين بالفضل فى كل لحظة من حياتى.
أثناء دراستى فى مدرسة بورسعيد الإعدادية، كان يُخصص لنا ساعتان كل أسبوعين للهوايات، وفى السنة الدراسية الثانية، قررت أن ألتحق بقسم هوايات التصوير، وفى اليوم الأول كان المطلوب منى شراء كاميرا، وعدت إلى أمى لأطلب منها شراء الكاميرا، فلم تتوانَ لحظة، وقامت، بالفعل، بشراء «كاميرا بوكس»، وكان سعرها أربعة جنيهات، وتُعتبر أبسط الأنواع، آنذاك، فلها ثلاث سرعات لتشغيلها، ويعتمد زر الإضاءة على ثلاث علامات، شمس وغيوم وظل، وتحديد المسافات يعتمد على ثلاث علامات أخرى. وبالرغم من بساطة تلك الكاميرا البوكس، وبدائيتها بمقاييس عالمنا المعاصر، فإن سعادتى بها جعلتها الأحدث والأهم بالنسبة لى.
والتحقت بجماعة التصوير، وأنا فى الصف الثانى الإعدادى، وتعرفنا فى اليوم الأول على معمل التحميض بالمدرسة، وتعلمنا تحميض الفيلم الفوتوغرافى، بإدخاله فى السائل المُظهر، ثم المُثبت، وكل ذلك فى الغرفة المظلمة. ثم بدأت دروس زوايا التصوير، وتجنب الظل، والتأكيد على التلقائية فى الصورة، والاعتماد على الطبيعة. بعدها بدأنا الخروج إلى الشارع مع المدرس، وكانت مجموعتنا تتكون من 10 طلاب، أخذنا نتجول فى شوارع بورسعيد، وكان كل منّا حريصًا على اختيار المناظر التى سيلتقطها لأن فيلم الكاميرا يسع 12 صورة فقط، فهناك مَن اختار البلكونات الخشبية، التى تشتهر بها عمارات بورسعيد، وهناك مَن اهتم بتصوير سوق السمك وعملية البيع والشراء فيها. أما أنا فاخترت أن أصور عددًا من الأطفال، انتهزوا فرصة سطوع الشمس، بعد أن كانت الأمطار قد هطلت فى ذلك اليوم، فخرجوا إلى الرصيف، بملابسهم البسيطة، يحملون أعواد القصب، وسعادتهم بالدفء لا تخفيها أعينهم البريئة، وبعض قطرات مياه الأمطار لا تزال تغطى شوارع المدينة، فالتقطت لهم ثلاث صور، من ثلاث زوايا مختلفة. وعدنا، سريعًا، إلى معمل التحميض بالمدرسة، وكلنا شغف لرؤية أول أعمال فنية لنا. وخرجت الصور رائعة، ولحسن الحظ، كان من المقرر، بعدها بأيام، إقامة المعرض السنوى للتصوير للمحترفين فى المدينة، فى مبنى البيت الحديدى، وهو من أقدم المبانى البورسعيدية، المصمم على الطراز الفرنسى، ونجح أستاذنا الجليل فى وضع الصور الفوتوغرافية لمجموعة المدرسة فى قسم الهواة بالمعرض، وهكذا عُرضت صورى لأول مرة فى المعرض السنوى ببورسعيد.
ومرت الأيام، وأصبحت رئيسًا لدار الأوبرا المصرية، أقوم بافتتاح العديد من معارض التصوير، فأتذكر فى كل مرة ما كان يدرسه لى أستاذى فى السنة الثانية فى مدرسة بورسعيد الإعدادية بنين، وأذكر تشجيعه لنا، وتفانيه فى إبراز مواهبنا وصقلها. وتذكرت أمى، التى اشترت لى أول كاميرا لكى أتعلم فنون التصوير. حقيقى أن الأم مدرسة، كما قال شاعرنا العظيم حافظ إبراهيم.
Email: sfarag.media@outlook.com
|