العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
حتى إننى تلقيت رسالة من محرك البحث جوجل، بأن عدد مرات قراءة المقال بلغت5 ملايين و400 ألف قراءة.
|
خمسة ملايين قارئ ... ومشيت فى الجنازة وحيدا
لواء د. سمير فرج
|
11 إبريل 2024
|
أكثر من ثمانى سنوات مرت، منذ أن بدأت كتابة مقالاتى الأسبوعية، فى هذه الصحيفة الغراء، التى بدأتها، بحكم التخصص، بالتركيز على موضوعات الأمن القومى المصري. وبعد فترة ليست بالطويلة، أضفت نوعاً جديداً من المقالات، المعتمدة على الخبرات الإنسانية، حتى كان يوم 29 مارس 2018، عندما نُشر مقالي: ومشيت فى الجنازة وحيداً، والذى فوجئت بانتشاره على نطاق واسع، ليس فى مصر، فقط، وإنما فى المنطقة العربية كلها، من خلال المشاركة والتداول عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، حتى إننى تلقيت رسالة من محرك البحث جوجل، بأن عدد مرات قراءة المقال بلغت5 ملايين و400 ألف قراءة. وأمام ما فيه من عِبر ودروس، كانت سبباً فى شهرته، فقد قررت إعادة نشره.
عندما توليت رئاسة إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية، كنا نحتفل مرتين، سنوياً، بشهداء حرب أكتوبر 73 ... وفى أحد الأيام، قدم لى أحد الأصدقاء، سيدة فاضلة ترغب فى مساعدة أسر الشهداء من الجنود وضباط الصف، ورحبت بطلبها، وبالفعل اشتركت معنا، فى أول الاحتفالات، وكان إفطار العاشر من رمضان.
ثم التقيتها، مرة أخرى، بعد شهر واحد، فعلمت بمساعدتها لأكثر من 200 أسرة من أسر الشهداء، سواء بالمساهمة فى تكاليف الزواج، أو إجراء عمليات جراحية، أو سفر للعمرة. كانت تلك السيدة، تنفق من مالها الخاص، بكرم حاتمي، حتى أنى أطلقت عليها، آنذاك، لقب أم الشهداء، لما رأيته منها من تفان وإخلاص، عجزت شخصياً عن تفسير أسبابه ... فقد كانت، على سبيل المثال، تجوب محافظات مصر شمالاً وجنوباً، لدعم أسر الشهداء، غير مكتفية بالدعم المادي، وإنما مصرة على أن يصاحب ذلك دعم معنوي.
ومرت السنوات السبع سريعة، وانقطعت الصلة مع هذه السيدة الفاضلة، بعد أن تركت مكانى فى الشئون المعنوية. وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً، تلقيت مكالمة تليفونية من إحدى مديرات دور المسنين، بأن هناك من يريد محادثتي، وجاءنى الصوت مألوفاً، إلى حد ما، إلا أنى لم أتعرف على صاحبته، فى تلك اللحظة، حتى عرفتنى بنفسها، أنها أم الشهداء، كانت مفاجأة أن أتلقى مكالماتها، وصدمة أن تأتينى من دار للمسنين. انطلقت على الفور لزيارتها ... ويالهول ما رأيت ... لقد تسللت إلى ملامحها بصمات الزمن الغائرة ... وأصبحت، بالكاد تقف، ولا تتحرك إلا بمشاية ترتكز عليها! وأخبرتنى مديرة الدار أنها شاهدتنى على إحدى القنوات، وطلبت أن تراني، فظلت تبحث عن رقم هاتفى حتى وجدته. أبلغتنى مديرة الدار أنها نزيلة بالدار منذ خمس سنوات، إذ أن أولادها مقيمون بالخارج، وابنتها الوحيدة، المقيمة فى مصر، تزورها، بالكاد، كل عدة أشهر.
وجلسنا معاً نتذكر الماضى الجميل، والتف حولنا باقى سيدات دار المسنين، يستمعن إلى ما سبق أن قصته عليهن مراراً، ولكن فى وجود شاهد الإثبات الوحيد على عظمة تلك السيدة. وسألتها عن أولادها فلقد كان أحد أولادها، طبيبا عالميا يعيش فى الولايات المتحدة الأمريكية، التى لم يعد منها بعدما أكمل دراسته بها، فقد بذلت الأم كل غالٍ ورخيص من أجل تعليم أبنائها أفضل تعليم. وابنها الآخر رجل أعمال مشهور فى دبي، أما الابنة الوحيدة، فتعيش فى القاهرة!.
اتصلت بهم جميعاً، لأخبرهم بحال أمهم، التى لم ترهم منذ عشر سنوات، وأحثهم على زيارتها ... فقال لى ابنها الطبيب الأكبر، المقيم فى أمريكا، إن لديها من الأموال ما يكفل لها العيش دون مشكلات فى هذه الدار، مع العلم أنه يزور مصر، كل عام! سمعت نفس الكلام من ابنها الثاني، المقيم فى الإمارات. أما الابنة، فتعللت بمسئوليات الحياة التى تلهيها عن زيارة أمها! فطلبت منهم صورا حديثة لعائلاتهم، علّها تجد فيها ما يؤنس وحدتها، ولن أطيل عليكم فى وصف فرحتها العارمة بتلك الصور، وهى تقارنها بما لديها من صور قديمة، ولن أحكى لكم عن مشاعر الفخر التى انتابتها وهى ترى الأحفاد وقد صاروا فتيانا وفتيات!. وهكذا، عشت 3 أشهر فى زيارات أسبوعية لهذا المكان، رأيت، خلالها، مجتمعاً جديداً لم أره من قبل، كانت متعتها الوحيدة خلالها، هى الحديث عن الابناء وعن ذكريات طفولتهم. وفى أحد الأيام، أخبرتنى برغبتها فى السفر، على نفقتها الخاصة، لزيارة أبنائها، وللأسف كان ردهم الأمور هنا صعبة.. وعندما نزور القاهرة سوف نراها.
وفى أحد الأيام، جاءتنى مكالمة فى الصباح من مديرة الدار، تبلغنى بوفاة «أم الشهداء»،وأنها فشلت فى الوصول لأى من أبنائها، وتخشى دفنها فى مقابر الصدقات. فأسرعت إلى الدار، وبعد اتصالات عديدة، عرفت مكان مقابر الأسرة، فأرسلت من قام بتجهيز المدفن، بينما أقمنا صلاة الجنازة فى الجامع القريب من دار المسنين، وشيعنا جثمانها إلى مثواه الأخير، وأنا معها وحيداً ... فقد اعتذر ولداها عن عدم إمكان الحضور، أما ابنتها فكانت مع أولادها بالإسكندرية للمشاركة فى مسابقة رياضية!. وللمرة الثانية فى حياتي، بعد وفاة والدتي، تسيل دموعى بغزارة، على من أفنت حياتها لتربية أولادها على أعلى مستوى، وخدمت أكثر من 1000 أسرة من أسر شهداء مصر، وكُتب عليها أن يواريها التراب وحيدة. وبعدها بأسبوع اتصلت بى مديرة الدار لتبلغنى بحضور ابنتها لتتسلم شهادة الوفاة، لإقامة دعوى إعلام الوراثة، لتحصل هى وأخواها على التركة الكبيرة التى تركتها لهم الأم. وتسلمت شهادة وفاة الأم، والتى اعتبرتها، فى هذه الحالة، شهادة وفاة القيم والأخلاق فى عصرنا الحديث.
Email: sfarag.media@outlook.com
|