العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

وتحولت أيامهم، ولياليهم، فى معسكرات القوات البريطانية والفرنسية إلى أسود أيام حياتهم.

أجمل يوم فى حياتى فى مدينة بورسعيد
 

لواء د. سمير فرج

 19 ديسمبر 2024


يوافق يوم الأحد القادم، 23 ديسمبر، وهو اليوم الذى تحتفل فيه مصر، وشعبها، وجيشها، وأبناء بورسعيد، بذكرى أحد أعظم أعيادها الوطنية، وهو عيد النصر على العدوان الثلاثى،المكون من قوات إنجلترا وفرنسا وإسرائيل. تلك الأيام التى أذكر بدء تفاصيلها عقب توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954، وخروج المستعمر البريطانى، من مصر، بعد 72 عاما من الاحتلال، وما تلاه من رفض البنك الدولى تمويل بناء السد العالى، ليتخذ عبدالناصر قراره بتأميم قناة السويس، يوم 26 يوليو 1956. فإذا بكل من بريطانيا وفرنسا تحيكان خطة عسكرية ضد مصر، أطلقتا عليها اسم «بروتوكول سيفر»، بهدف التخلص من عبدالناصر، الذى هدد نفوذ بريطانيا، بإجلاء قواتهم من مصر،فضلاً عن تحالفه مع السوفيت لتوريد السلاح ورفع كفاءة الجيش المصري. أما فرنسا، فوجدتها فرصة للانتقام من عبدالناصر، الذى ساند ثورة الجزائر، وأمم قناة السويس، التى كانت، حينئذ، تحت الإدارة الفرنسية، بينما استغلت إسرائيل الفرصة لفك الحصار المفروض على عبور سفنها من قناة السويس.

وطبقاً لبروتوكول سيفر، تم إنزال قوات إسرائيلية فى عمق سيناء، يوم 26 أكتوبر 1956، معلنة توجهها نحو قناة السويس، وعلى أثره أصدرت بريطانيا وفرنسا إنذاراً بوقف القتال بين مصر وإسرائيل، ومطالبة الطرفين بالانسحاب لمسافة 10 كيلومترات عن قناة السويس، وقبول «دخول» قوات بريطانيا وفرنسا لمدن القناة لحماية الملاحة فى قناة السويس، وإلا دخلتها بالقوة.وهو ما رفضته مصر، رفضاً قاطعاً، علماً بمحاولات تلك الدول احتلال مدن القناة.

وفى يوم 31 أكتوبر 1956، هاجمت الدولتان مصر، وبدأتا بالغارات الجوية على القاهرة ومدن القناة. ولتفادى تشتيت القوات المصرية،أصدرت القيادة المصرية أوامرها بانسحاب القوات المصرية من سيناء، للتصدى للهجوم على مدن القناة، وبالفعل، بدأت إنجلترا وفرنسا هجومها ضد بورسعيد فى يوم 31 أكتوبر.

استيقظت فى منزلنا، فى بورسعيد، فى صباح ذلك اليوم، على صوت قصفات الأسطول البحرى الإنجليزى والفرنسى لمدينتى الحبيبة. ورأيت من شرفة منزلنا فى بورسعيد، قوات المظلات البريطانية، تهبط فى مطار الجميل، فناديت والدى، رحمة الله عليه، ليرى ما يحدث، فانطلق يدير المذياع على محطة BBC، فسمعنا الإنذار الموجه إلى شعب بورسعيد، لإخلاء مساكنهم القريبة من شاطئ البحر، واللجوء إلى المخابئ، تجنباً لقصف المدينة. وفى نفس اللحظة انتفض أهالى بورسعيد، وبدأت المقاومة الشعبية، بالاندفاع إلى مطار الجميل، ونجحوا فى إبادة الفوج الأول من قوات المظلات البريطانية. وبدأ الغزو الفرنسى والبريطانى، حيث تولت القوات البريطانية الهجوم على بورسعيد، بينما هاجمت القوات الفرنسية مدينة بورفؤاد، وتصدت لهما المقاومة الشعبية، لمدة ثلاثة أيام كاملة، حتى جاء يوم 2 نوفمبر، حين صدر قرار مجلس الأمن بإيقاف إطلاق النار، وانصاعت القوات البريطانية والفرنسية للقرار.

وفى هذا اليوم، وفور توقف إطلاق النار، صحبنى والدى للتوجه لمنزل جدتى، فى شارع الثلاثينى، للاطمئنان عليها، وفى طريقنا إليها، شاهدنا على كل ناصية شهداء المقاومة الشعبية، وسط دمائهم الطاهرة، ووصلنا إلى ميدان المحافظة، فرأينا كل مبانيه محروقة بنيران النابلم، التى قذفتها الطائرات البريطانية والفرنسية.

والحقيقة أنه خلال فترة وجود القوات الغازية فى بورسعيد، لم تهدأ عمليات المقاومة الشعبية، وأوجعتهم ضربات الفدائيين المصريين بشدة، والتى كان منها عملية اختطاف الضابط البريطانى مور هاوس، ابن عم ملكة بريطانيا، وكذلك اغتيال ضابط المخابرات البريطانى ويليامز.

وتحولت أيامهم، ولياليهم، فى معسكرات القوات البريطانية والفرنسية إلى أسود أيام حياتهم، فلم تكن ليلة تمر، إلا وقد أثخنتهم المقاومة الشعبية بعملياتها الفدائية، حتى انسحبوا يوم 23 ديسمبر 1956، حاملين على جباههم عار هزيمتهم أمام شعب بورسعيد.

ورغم حداثة سنى، حينئذ، فإننى أذكر، بوضوح، مشهد اندفاعى، مع جموع شعب بورسعيد، لاستقبال طلائع الجيش المصرى، عند مدخل مدينتى الحبيبة، التى حررت نفسها من قيود قوات الغدر الإنجليزية والفرنسية. ومنذ ذلك اليوم، صرنا نحتفل، كل عام، فى بورسعيد بعيد النصر، باستقبال الرئيس جمال عبدالناصر، الذى كان يحرص على الوجود معنا فى ذكرى ذلك اليوم العظيم، فكان يمر بسيارته المكشوفة فى شوارع بورسعيد، التى يخرج كل أهلها، ويصطفون على جنبات الطريق، لتحيته، حتى أن بعض كبار السن، ممن لا يغادرون منازلهم، كانوا يخرجون فى هذا اليوم لتحية الزعيم جمال عبدالناصر، قبل توجهه إلى ميدان الشهداء، لحضور طابور العرض العسكرى.

وكنت وأنا طفل صغير، أقف لمتابعة هذا العرض العسكرى، والتصفيق لجنود بلادى، وقررت يومها أن أصبح ضابطاً فى القوات المسلحة، ولم أكن أدرى أننى بعد تخرجى فى سلاح المشاة، سيقرر قائد كتيبتى، أن أحمل علم الكتيبة، فى طابور العرض، أمام الرئيس جمال عبدالناصر، فى مدينتى الحبيبة بورسعيد، يوم الاحتفال بعيد النصر، فكان ذلك واحداً من أجمل وأسعد أيام حياتى، بعد أن حققت حلمى بأن أصبح ضابطاً بالقوات المسلحة المصرية، وأحمل العلم فى طابور العرض أمام الرئيس جمال عبدالناصر، ومن حولى أبناء وأهالى بورسعيد، يتابعون العرض من نفس المكان الذى وقفت فيه من قبل.

ومنذئذ، صارت ذكرى هذا اليوم، عيدا لنصر مصر، عامة، وشعب بورسعيد خاصة، ضد أعتى القوى العالمية، فى ذلك الوقت؛ بريطانيا العظمى وفرنسا، ومازلنا نقص تفاصيل ذلك النصر لأبنائنا وأحفادنا، ليفخروا بقدرة المصريين على سطر فصولً من نور فى تاريخنا الغالى.



Email: sfarag.media@outlook.com