|
كنت في زيارة إلى تايوان خلال الأسبوع الماضي، للمشاركة فيمؤتمر دولي عن "الأمن القومي في جنوب شرق آسيا...والتحديات التي تواجه الأمن العالمي لحلف الناتو وآسيا". وخلال أربعة أيام، هي عمر المؤتمر،لفت انتباهي،أنه يومباً، كان الجميع يستشهد بما فعله المصريون في حرب أكتوبر 73. ومن هذا المنطلق، استعرض، ما قدمته العسكرية المصرية في حرب 73، للفكر العلمي العسكري،لكافة المدارس العسكرية في العالم. فلقد كان لهذه الحرب، تأثيراً كبيراً على العقيدة العسكرية الغربية، ويأتي ذلك لعدة أسباب،أوجزها في... أولاًأنها كانت حرباً تقليدية بين الجيشين المصري والإسرائيلي، كلاهما مزود بأحدث الأسلحة والمعدات، إضافة إلى منظومات جديدة، لم تكن قد استخدمت من قبل في ميادين القتال الحقيقية. ويكفيالقول بأن هذه الحرب، استخدم فيها،ولأول مرة،من الجانبين، الأسلحة الإلكترونيةElectronic Warfare (EW)، والأسلحة الإلكترونية المضادةCounter Electronic Warfare (CEW)، على أعلى مستوى من التقنيات العلمية. ثانياًالتقاء عقيدتي قتال مختلفتين؛ بين الجيش المصري، وما يطبقه من عقيدة قتالية شرقية، مستخدماً أسلحة، غالبيتها سوفيتية، والآخر جيش الدفاع الإسرائيلي،الذي يطبق أساليب قتال العقيدة الغربية،بأسلحتها ومعداتها.فوضح، لكل المحللين،أنها معركة بين فكر وتسليح العقيدتين الشرقية والغربية. ثالثاً أن العالم لم يشهد عمليات حقيقية، في حرب تقليدية،منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945، التيتغيرت،بعدها،مفاهيم القتال، وتغيرت الأسلحة والمعدات،باستخدام تكنولوجيا جديدة. حتى أن الحروب، التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مثل كوريا أو فيتنام، كانت من طرف واحد قوي، دون مقاومة منظمة من الجانب الآخر. فلم تفرز فكراً جديداً. السبب الرابع، دخول الجيش الإسرائيلي لهذه الحرب، معتمداً على انتصاراته في عمليات 1967. فقد حقق سمعة لا بأس بها،بقياسات المدارس العسكرية،التي أعتبرته مثالاً، يمكن تطبيقه في حالات أخرى. وجاءت حرب 1973، وأظهر الجيش المصري أداءاًعسكرياً متميزاً، ليجبر، جميع المراكزالاستراتيجية، والمعاهد العسكرية، والمحللين العسكريين، أن يحللوا كيفية نجاح هذا الجيش، في إلحاق هذه الهزيمة بالجيش الإسرائيلي، ويقطع اليد الطولى(الطيران الإسرائيلي)، التي، طالما، تغنت بها إسرائيل بعد 1967. تمثلالشقالخامس،في عنصر المفاجأة، الذي حققته القوات المسلحة المصرية، على المستويين الإستراتيجي والتكتيكي، حيث جاءت ضرباتها الأولى،قوية، وسريعة،ومؤثرة. سادساً،إنجازات القوات المسلحة المصرية، أثناءحرب الاستنزاف، ولعلنا نذكر إغراق المدمرة "إيلات"،تلك العملية التي أدت إلى تغيير نمطالتسليح وأسلوب القتال للقوات البحرية في العالم. كذلك بناء حائط الصواريخ المصري، غرب القناة، ودوره الرائع، أثناء الحرب، في تحييد القوات الجوية الإسرائيلية. سابعاً،التكتيكات، وأساليب القتال الجديدة،التي نفذتها القوات المصرية في هذه الحرب، مما دفع المحللين العسكريين،إلى دراستها، والاستفادة منها. ولعل ما يدعوني، والعسكرية المصرية، للفخر،هو أن المعاهد العسكرية، بلا استثناء،اعتبرت الدروس المستفادة من حرب أكتوبر 73، جزءاً لا يتجزأ من مناهجها الدراسية. وجاءت بشائر تأثيرات التغيير أثناء حرب الاستنزاف المصرية، وذلك بعد إغراق المدمرة الإسرائيلية "إيلات"،فبدأت القوات البحرية، في كافة الدول، بالاعتماد على اللنشات الصغيرة، والسريعة،ذات السلاح المتطور، كبديل عن المدمرات الكبيرة، وحاملات الطائرات، والطرادات. أما التأثير الثاني، فكان في مجال القوات الجوية؛فوفقاً لمفاهيم القتال،يعتمد عمل القوات الجوية،على عنصرين هما "السيادة الجوية"Air Supremacy، بمعنى سيطرة القوات الجوية على ميدان القتال الجوي بالكامل. والعنصر الثاني كان "السيطرة الجوية"Air Superiority، وهذه السيطرة تكون على ميدان القتال بالكامل، أو على جزء منه، أو لوقت محدد. وخلال حرب أكتوبر، أضافت القوات المسلحة المصرية عنصراً ثالثاً،وهو "تحييد القوات الجوية المعادية"Neutralizing Enemy Air Force، بمعنى أنه بالرغم من امتلاك القوات الجوية المعادية،للقوة،والكفاءة،والعدد،التي يؤهلها للسيطرة الجوية، إلا أنها تعجز عن المشاركة.ولعل أبلغ دليل، ذلك التحذير الذي أطلقه قائد القوات الجوية الإسرائيلية، لقواته،بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15كم!! والتأثير الثالت كان نتاج تخطيط مبتكر، في التوجيه رقم 41، الذي أُعد بمعرفة لجنة رأسها الفريق/ سعد الشاذلي-رئيس الأركان،متيحاً لقوات المشاة العبور، دون دعم، لمدة 12 ساعة، هي مدة إتمام إنشاء الكباري، وعبور الدبابات. وهو ما تم التخطيط له باستخدام الأسلحة المضادة للدبابات، وبحسابات دقيقة للموجات الأولى من المشاة، فتمكنت من صد، وتدمير الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية في "خط بارليف". وهذا الفكر، لم يكن لأي مخطط عسكري أن يتخيله، قبل حرب أكتوبر 1973. وبالرجوع لقانون القتال البريطاني، في بند القتال في الأراضي الصحراوية، والأراضي المفتوحة، تجده ينص على استخدام "الستارة المصريةالمضادة للدبابات"، مشيراً لها كنتاج الفكر المصري. أما التأثير الرابع، فكان "الحصار البحري عن بُعد"Distant Naval Blockade، حيث أشارت المراجع العسكرية الغربية، إلى أن نجاح القوات البحرية المصريةفي إغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية،بمنأى عن المدى الجوي الإسرائيلي، جاءكمفاجآةالحرب. ليظهر، بعدها، في العقيدة الغربية، فكراً جديداً بعنوان "الحصار البحري عن بُعد" Distant Naval Blockade. تمثلالتأثير الخامس في عنصر المفاجأة، كواحداً منأهم مبادئ القتال، في العقائد القتالية الغربية. فقبل حرب أكتوبر 1973، كانت كل المراجع العسكرية تشكك في إمكانية تحقيق المفاجأة بكامل أبعادها،استراتيجياً،وتعبوياً، وتكتيكياً، في ظل التقنيات الحديثة،والأقمار الصناعية،ووسائل الكشف المبكر. ولكن حرب أكتوبر، حطمت كل هذه المفاهيم؛فقد كانت أكبر المفاجآت، هي الهجوم على خط المواجهة بالكامل، ليصعب على الإسرائيليين تحديد اتجاه الهجوم الرئيسي. لذلك عند شرح العقيدة القتالية الغربية، في كتب علم فنون القتال "التكتيك" عن فترة المفاجأة، تجدها تؤكد على إمكانية تحقيق المفاجآت، مرة أخرى. وكان التأثير السادس في إضافة بند جديد إلى مبادئ القتال التقليدية، المتمثلة في المفاجأة، والسرية،والخداع،والمناورة...الخ، فكان البند الجديد، بعد 1973، وهو استخدام "أساليب غير تقليدية في الحرب الحديثة" Non-Conventional Methods in Modern Warfare. وعندما عرضت قوانين القتال الغربية هذا البند، فإنها بدأت منذ حصار طرواده، وصولاً إلى ما حققه المصريين في حرب 1973، من هدم الساتر الترابي باستخدام خراطيم المياه،وإغلاق أنابيب النابالم في خط بارليف. كان التأثير السابعإضافة جديدة لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، وهو "النوعية"، فقداعتمدتمقارنة القوات، قبل حرب أكتوبر،على أعداد المعدات والأسلحة. وجاءت حرب أكتوبر، لتقلب هذه الموازين بظهور عامل جديد،وهو الجندي المصري.ففي مناظرة أجريتها شخصياً مع الجنرال شارون، عن حرب أكتوبر، وأذاعها التليفزيون البريطاني، سئل شارون عن وجهة نظره، فيما يراه المفاجأة في حرب أكتوبر؟ فجاءت إجابته "أن المفاجأة الحقيقية، كانت الجندي المصري، الذي اختلف عن الجندي في عامي 1967،و1956!" فالجندي المصري عام 1973 كان من المؤهلات العليا، وروحه المعنوية عظيمة، لا يمكن إغفال تأثيرها.وهو ما دفع مراكز الدراسات الاستراتيجية لإضافة بند جديد،عند حساب وقارنة القوى، وهو "النوعية القتالية"، ويقصد بها الفرد المقاتل، بسبب ما حققه المقاتل المصري في حرب 1973، وهو ما كان غائباَ عن كل الحسابات السابقة، التي قادت إلى نتائج خاطئة.ولعل أشهر هذه الدراسات ما يقدمه معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن(IISS)، في تقريره السنوي الشهير "التوازن العسكري"The Military Balance. أما التأثير الأخير، فكان تغيير مفهوم "الدفاع المتحرك"Mobile Defense، فقد طبقت إسرائيل الأسلوب التقليدي، في العقيدة الغربية، للدفاع عن خط قناة السويس،بالاعتماد على نقاط قوية على الخط الأمامي،مُعززة باحتياطيات قوية في العمق، تواجه القوات المهاجمة في مناطق احتواء لتدميرها. وجاء هجوم القوات المصرية على المواجهة بالكامل، واختراقها للدفاعات الإسرائيلية،لتجدالأخيرة نفسها عاجزة عنتوجيهالضربات، فتشتتت، وخسرت معركتها. وبانتهاء الحرب، بدأت قيادات حلف الناتو تطبيق مبدأ "الدفاع النشط" Active Defense، وهو الشكل الجديد للنظم الدفاعية، في قانون القتال الأمريكي والبريطاني. أما فرنسا فلجأت لتطوير الدفاع المتحرك بشكل جديد هو "الدفاع المتحرك العنكبوتي".وهو مايدعو لتقديرالقوات المسلحة المصرية،التي جاءت هذه الأفكار الجديدة،نتاجاً لخبرتها القتالية في 1973. وفي النهاية، لا يسعني إلا أن أقول أن ما حققه الفكر المصري العسكري في حرب أكتوبر 1973، سيظل دائماً هو المحرك لأي تطوير في أساليب القتال الحديثة،أو تطوير الأسلحة والمعدات والأنظمة مستقبلاً، حتى تظهر حرب تقليدية جديدة، بين أطراف مقاتلة، لها قوةوشأن القوات المسلحة المصرية. Email: sfarag.media@outlook.com |