النسخة الأولى

من أكثر الأماكن التى خدمت فيها، فى حياتى، إدارة الشئون المعنوية، التى توليت إدارتها سبع سنوات، متواصلة، لم أتوان خلالها، يوماً، عن بذل الجهد فى تطويرها، إلى أن أصبحت، حتى اليوم، من أهم الإدارات، ليس على مستوى القوات المسلحة، فحسب، وإنما على مستوى الدولة المصرية كلها. كنت، ولا أزال، أكنّ لتلك الإدارة العريقة، تقديراً كبيراً، وأتابع نجاحاتها المتواصلة، ودورها الحيوى فى القوات المسلحة، وفى عموم مصر. ومع تولى اللواء الدكتور طارق هلال رئاسة الإدارة، توجهت إلى مكتبه لتهنئته، فجمعنا حديث عن أفكار جديدة لتطوير العمل، وكان من بينها فكرة عرضها سيادته، بأن تُصدر إدارة الشئون المعنوية موسوعة عن مصر، تضم جميع المعلومات التاريخية والحضارية عنها. وقد نبعت فكرته نتيجة لتناثر المعلومات عن تاريخ مصر، بين المراجع والكتب والمجلات، وعدم جمعها فى إصدار واحد، شامل، يحمل اسم مصر. والحقيقة أن آخر الأعمال البارزة، فى هذا المجال، كان كتاب «شخصية مصر»، للمفكر العظيم جمال حمدان، الذى وصف مصر بعبقرية المكان، وقدم دراسة فريدة عن الجغرافيا المصرية وتأثيرها على التاريخ والسياسة والمجتمع. وقد صدر كتاب «شخصية مصر» فى أربعة مجلدات، تناول فيها الدكتور جمال حمدان شخصية مصر الطبيعية، والبشرية، والتكاملية، والحضارية. وبما أنه أحد أعلام الجغرافيا، فى القرن العشرين، فقد كان من الضرورى استكمال مشواره، بإصدار موسوعة حديثة توثق التاريخ المصرى العظيم.

وهكذا، أصدرت إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة موسوعة «مصر ... التاريخ والحضارة»، فى يناير 2025، التى طُرحت فى معرض الكتاب الدولى هذا العام. جاءت الموسوعة فى خمسة أجزاء رئيسية؛ تناول الجزء الأول الحضارة المصرية القديمة منذ فجر التاريخ حتى عام 323 قبل الميلاد، عندما نجح الإسكندر الأكبر فى إسقاط الإمبراطورية الفارسية وتحرير مصر من قبضتها، ثم استكمل هذا الجزء الحديث عن حكم البطالمة مصر، خلفاء الإسكندر الأكبر، وبعدها كيف تحولت مصر إلى أكبر ولاية تابعة للإمبراطورية الرومانية. ويتوقف هذا الجزء عند ظهور المسيحية فى مصر، ليبدأ التاريخ الوسيط الذى سيشهد ميلاد المسيحية وانتشار الإسلام. أما الجزء الثانى من الموسوعة فيتناول مرحلة العصور الوسطى، ودور مصر بعد دخول المسيحية، ثم دورها فى نشر الإسلام بعد الفتح الإسلامى عام 641 ميلادية. كما يعرض هذا الجزء الدور الذى قامت به مصر فى الفتوحات الإسلامية، ومواجهتها للحملات الصليبية والمغول، وانتهى بسقوط دولة المماليك عام 1517 على يد العثمانيين.

ويتناول الجزء الثالث تحول مصر إلى إحدى ولايات الدولة العثمانية، حتى جاءت حكومة محمد على، الذى تولى حكم مصر ثم الحملة الفرنسية (1798-1801). كما يناقش ذلك الجزء الاحتلال البريطانى لمصر، والحركة الوطنية ضده، ويتوقف عند إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914، وهو العام الذى اندلعت فيه الحرب العالمية الأولي. وبعده يأتى الجزء الرابع من الموسوعة ليتناول الأحداث السياسية والاجتماعية التى مرت بها مصر منذ الحرب العالمية الأولى حتى ثورة يوليو 1952. يتناول هذا الجزء موقف مصر من الحرب العالمية الأولى، والمطالبة بالاستقلال، وتحول مصر من سلطنة إلى مملكة بعد دستور 1923، ثم تطورات الاحتلال البريطانى بعد معاهدة 1936، ودور مصر بعد الحرب العالمية الثانية، انتهاءً بالأحداث التى مهدت لثورة 23 يوليو 1952.

أما القسم الثانى من الجزء الرابع، فقد بدأ برصد تحركات الضباط الأحرار ونشاطهم ضد الملك، ونجاح الثورة فى عزل الملك وإعلان الجمهورية. ويناقش هذا الجزء التحولات السياسية والاقتصادية التى شهدتها الجمهورية الأولى، والتحديات التى واجهتها مصر، خاصة الحروب مع إسرائيل، والتغيرات التى طرأت على الحياة المصرية بعد حرب أكتوبر. كما تطرق إلى عهد الرئيس السادات، ومعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، والتحول الاقتصادى إلى سياسة الانفتاح، ثم تناول ملامح العصر الحديث فى عهد الرئيس مبارك، والأزمات التى مرت بها مصر فى آخر عشر سنوات من حكمه. كما يرصد هذا الجزء انحياز الجيش لمطالب الشعب فى ثورة 25 يناير، ثم دعمه ثورة 30 يونيو 2013، وبداية حكم الرئيس عبدالفتاح السيسى، والتحديات التى واجهتها مصر فى تلك الفترة، وكيف تمكنت الدولة من تجاوز معظمها، بالإضافة إلى رصد النهضة المستدامة التى تشهدها مصر حالياً. بينما حمل الجزء الخامس من الموسوعة عنوان الهوية المصرية، الذى ركز على التحديات التى تواجه الهوية المصرية، ودور القوى الناعمة المصرية، فى مواجهة تلك التحديات، والتصدى لها، بما عُرف عن تأثيرها الممتد عبر العصور. ناقش ذلك الجزء، كذلك، دور الفنون المصرية فى تشكيل الهوية البصرية، والتأثير الثقافى الذى جعل مصر دائماً فى قلب العالم العربي.

وهكذا قدمت إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة هذا العمل العلمى الرائع، ليكون مرجعاً مهما لكل المصريين، إذ تعد موسوعة «مصر ... التاريخ والحضارة» تطوراً جديداً، يتجاوز ما قدمه جمال حمدان، حيث تناولت بعمق القوى السياسية، والتاريخية، والعسكرية، إلى جانب القوى الناعمة. ولعل أهم ما يميز هذه الموسوعة أن جميع المعلومات والبيانات الواردة بها تم توثيقها من عدد كبير من المصادر والمؤلفات، باللغتين العربية والإنجليزية، لضمان صحة أدق تفاصيل التاريخ. ولقد غمرتنى السعادة والامتنان عند تلقى اتصال اللواء طارق هلال، لإبلاغى بتسليمى النسخة الأولى من الموسوعة، قبل إرسالها لمعرض الكتاب، تقديراً لدورى السابق كأحد قادة هذه الإدارة. واليوم، أشعر بفخر كبير وأنا أرى هذه الإدارة مستمرة فى التطور، وتسهم فى نشر الوعى والفكر المستنير لوطننا العظيم، لنظل دائمًا نقول، تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر.