العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
وخلال العقود السابقة، كانت من أهم عناصر القوة الشاملة لمصر هى القوة الناعمة المتمثلة فى الإنتاج الفنى والثقافى.
|
القوة الناعمة المصرية.. ناقوس الخطر
لواء د. سمير فرج
|
24 إبريل 2025
|
عندما ندرس فى كلية الدفاع فى أكاديمية ناصر العسكرية، فإننا نقول إن قوة أى دولة شاملة تعتمد على مجموعة من العناصر، منها: القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوى السياسية، والقوى الجيوبوليتيكية، والقوة الناعمة، وغيرها من أشكال القوة.
وفى الماضى، كانت القوة العسكرية تعد هى العامل الأساسى والأهم بين هذه القوى. أما اليوم، فقد أصبحت القوة الاقتصادية هى التى تتصدر قائمة القوى المؤثرة، لأن الدولة التى تمتلك قوة اقتصادية كبيرة يمكنها أن تبنى جيشًا قويًا على أعلى درجات التكنولوجيا والعلم والمعرفة، وتتمكن من الدخول فى حروب طويلة الأمد، اعتمادًا على ما تملكه من موارد اقتصادية.
تمامًا كما حدث فى حالة روسيا خلال حربها مع أوكرانيا، حيث ساعدها اقتصادها القوى على الاستمرار فى الحرب لأكثر من ثلاث سنوات، فى حين أن أوكرانيا كانت تعتمد اعتمادًا شبه كامل على الدعم الأمريكى، سواء كان هذا الدعم اقتصاديًا أو عسكريًا، ولولا هذا الدعم لما استطاعت أن تستمر فى هذه الحرب أكثر من عدة أشهر.
وفى ظل العالم المفتوح حاليًا، ظهرت أهمية القوة الناعمة بشكل واضح. فاليوم، لا توجد حواجز بين الشعوب؛ فكل ما يحدث فى العالم يمكن أن يصل إليك من خلال التليفزيون أو من خلال الهاتف المحمول الموجود فى يدك.
وخلال العقود السابقة، كانت من أهم عناصر القوة الشاملة لمصر هى القوة الناعمة المتمثلة فى الإنتاج الفنى والثقافى، من أفلام ومسلسلات وموسيقى. فالفن المصرى استطاع أن يدخل كل بيت فى العالم العربى، من المحيط إلى الخليج، وأصبح مألوفًا ومحبوبًا لدى جميع الشعوب العربية، حتى إن اللهجة العامية المصرية أصبحت مفهومة ومستخدمة فى معظم الدول العربية، وأصبحت جزءًا من الثقافة اليومية فى هذه المجتمعات.
وخلال الأعوام الماضية، وفى ظل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تم التعاقد معى من قِبل إحدى المحطات التليفزيونية فى دولة من دول المغرب العربى لتقديم برنامج أسبوعى ساعة سياسة، يُعرض مساء كل خميس. وكان الهدف من البرنامج هو تحليل الأحداث العالمية، خاصة تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، بطريقة مبسطة ومباشرة، وبلهجتى المصرية المعتادة.
خلال أربعة أشهر فقط، حقق البرنامج نجاحًا كبيرًا، وأصبح حديث المجالس فى هذه الدولة. وتلقيت العديد من الاتصالات من السفير المصرى هناك، وكذلك من الملحق العسكرى المصرى، حيث أكدا أن تأثير البرنامج أصبح واضحًا، وأن الناس أصبحت تنتظر تحليلات «الجنرال المصرى سمير فرج» الذى يتناول القضايا العالمية بأسلوب سهل وبسيط.
ولكن فجأة، توفيت شقيقتى –رحمها الله– وكانت قد أوصت أن تُدفن فى مدينة بورسعيد بجوار والدتى، رحمها الله. وبالفعل، بدأت ترتيبات الجنازة والدفن فى بورسعيد، وكان العزاء مساء الخميس، فى نفس توقيت بث الحلقة المعتادة.
قمت بإبلاغ القناة وطلبت تأجيل الحلقة نظرًا لهذا الظرف الإنسانى الصعب، خاصة أن شقيقتى كانت عزيزة جدًا على قلبى، ولها مكانة خاصة فى حياتى. ولكن للأسف، قوبل هذا الطلب برفض شديد من رئيس القناة، حيث قال «هناك فنانون يتوفى والد أحدهم صباحًا، ويذهب لتقديم عرضه المسرحى مساءً لأن الجمهور فى انتظاره»، وأضاف أن بيننا عقدًا يلزمنى بتقديم الحلقة، ويجب أن ألتزم به مهما كانت الظروف.
رفضت تقديم الحلقة، لأن الظروف النفسية والترتيبات لم تكن تسمح بذلك على الإطلاق. وتطور النقاش بينى وبين إدارة القناة، خاصة لأن طبيعة المسئولين هناك كانت جافة، فاضطررت إلى إيقاف التعامل معهم فى اليوم التالى.
فى صباح اليوم التالى، تلقيت مكالمة هاتفية من السيد السفير المصرى هناك، قال لى: «يا فندم، البلد كلها زعلانة. الناس هنا اعتادوا على أسلوبك وتحليلك، وأهم ما كان يميز البرنامج هو لهجتك المصرية التى يفهمها الجميع ويشعرون معها بالألفة. الجمهور ارتبط باللهجة المصرية وبأسلوبك المبسط والمباشر فى تقديم الأحداث».
وبعد مرور شهر على توقفى عن تقديم البرنامج، تعاقدت القناة مع ضيف آخر –جنرال من إحدى دول الشام– ليقوم بتقديم نفس البرنامج، لكنه لم يحقق النجاح نفسه، لأن المشاهدين اعتادوا على اللهجة المصرية التى أصبحت جزءًا من أسلوبهم اليومى فى تلقى الأخبار وفهم التحليلات السياسية.
وبعد ذلك، حاولت القناة التواصل معى من جديد لتجديد التعاقد، لكننى رفضت. وهنا تتضح أمامنا وبكل وضوح أهمية القوة الناعمة المصرية. ولكن، فى المقابل، هناك تهديد جديد يواجه هذه القوة، وهو انتشار المسلسلات التركية التى بدأت تدخل كل بيت عربى، وتتم دبلجتها باللهجة الشامية – سواء اللبنانية أو السورية. وهذا بدوره يؤثر على مكانة الدراما المصرية. ومع تحسن الأوضاع فى سوريا، من المتوقع أن تعود الدراما السورية بقوة إلى الساحة، خاصة بعد التراجع الذى شهدته خلال سنوات الحرب، وبالتالى سيشتد التنافس. من هنا، أطلق جرس إنذار لصناع الدراما المصرية: لا بد من إعادة النشاط سريعًا، وإلا فسنفقد ما تبقى من القوة الناعمة المصرية فى العالم العربى. وأوجه أيضًا رسالة إلى السيد وزير الثقافة وكل الجهات المختصة: يجب أن يتم التفكير جديًا فى دبلجة الأعمال التركية وغيرها من المسلسلات التركية والاجنبية باللهجة المصرية، خاصة أننا نمتلك الإمكانات البشرية والفنية والإعلامية القادرة على تنفيذ هذه المهمة بكفاءة.مصر تمتلك ممثلين وفنانين عظماء، ومؤسسات إعلامية قوية، ولدينا كوادر مهنية يمكنها العمل على إعادة تقديم هذه الأعمال بطريقة مصرية خالصة. وهذا جرس إنذار للحفاظ على القوة الناعمة المصرية.
Email: sfarag.media@outlook.com
|