|
ربطتني بالأستاذ هيكل صداقة عبر السنين ... من خلال مقالاته ... "بصراحة" ... التي كان الجميع ينتظرها كل جمعة، في جريدة الأهرام. وأذكر أنه خلال دراستي في لندن، كانت هناك مرحلة لدراسة حرب السويس ... أو كما نطلق عليها حرب 56 ... وقرأت ما كتبه الإنجليز، وتحليلاتهم ... وأكاد أجزم أن معظم التحليلات الإنجليزية، في ذلك الوقت، ارتكزت، بالأساس، على كتابات هيكل إبان حرب السويس، قبل تأميم القناة ... ثم مرحلة التصعيد من عبد الناصر ... ثم مرحلة الحرب ذاتها، والهجوم على بورسعيد ... وما تلا ذلك من انسحاب في 23 ديسمبر 1956. فكل دراسات التقديرات البريطانية، كانت تعتمد، أساساً، على ما كتبه هيكل. وأذكر أن جلسات مجلس العموم البريطاني، كانت تناقش، أيضاً، ما يكتبه هيكل. بل لقد وجدت، بالكلية التي كنت أدرس بها، ملفاً كاملاً عن كل ما كتب هيكل، وعن علاقته بعبد الناصر، آنذاك. ولا أدري كيف تحول هيكل، بعد ذلك، من كونه صديقاً "للكولونيل" ناصر، عدو بريطانيا ... إلى واحداً من أهم أصدقاء رجال الصحافة في إنجلترا ... وفتحت له الصحف البريطانية، بعد ذلك، صفحاتها ليكتب فيها ... بل وأصبحت دور النشر البريطانية هي النافذة لكتبه إلى أوروبا بأكملها. وأذكر، وأنا طالب بكلية كمبرلي الملكية في إنجلترا، كيف كانت لندن تستقبل هيكل، ليلتقي بكبار السياسيين، والمفكرين، والكتاب، ورجال البرلمان ... ليتحدث ... وينصت الجميع. وأذكر أن اللورد كارينجتون، صاحب القرار 242، الشهير، في مجلس الأمن، كان يحاضرنا في أحد الأيام، وعندما ناقشته في تفاصيلالقرار، والمقصد منه، تيقن أنني مصري ... وبعد المحاضرة، وأثناء الغذاء، قال لي "عزيزي الضابط المصري ... سأقابل الليلة على العشاء العزيز هيكل ... فهناك جمع كبير من الكتاب، والسياسيين المهتمين بالاستماع له، لمعرفة ما يحدث في المنطقة العربية بعد حرب أكتوبر 1973 ... إنه رجل عظيم ... صدقني ... ونحن نكن له كل الاحترام هنا، في إنجلترا". وتعود بي الذكريات إلى الحلقات التي قدمها هيكل في قناة الجزيرة عن تاريخ مصر ... وأؤكد، وأنا دارس للتاريخ بكلية الآداب، بجامعة عين شمس، أن هذه الحلقات ستكون شاهدة على فترة كبيرة من تاريخ مصر ... قدمها شاهد عيان، بنفسه، وبصوته، وبوجوده بجوار السلطة في تلك الفترة. لقد تابعتها، بشغف، على قناة الجزيرة، وهو يحكي بالتفصيل لحظة بلحظة عما حدث ... رصداً، وتحليلاً ... ويكفي أن أقول، أنه الوحيد من كتاب، ذلك العصر، الذي كان يوثق كل ما يقول بالخطابات، والوثائق الهامة، التي أتاحت له الظروف الحصول عليها. فكان أول ما طلبت منه، عندما التقيته، وجهاً لوجه، في أعقاب ثورة يناير 2011، نسخة من هذه الحلقات. واليوم، وقد غيب الموت هيكل، بجسده، فإنني أطرح سؤالاً هاماً ... أين ستذهب مكتبة الأستاذ هيكل؟ تلك المكتبة التي تحوي كنوزاً عن تاريخ مصر. أعتقد أن على مصر التفكير، من الآن، في كيفية الاستفادة من هذه المكتبة العظيمة، خاصة أن ما تحويه من وثائق، هي وثائق حقيقية. وأتساءل عن إمكانية تضمينها في متحف تاريخ ثورة 23 يوليو 1952. وحتى لا يضيع الحق الأدبي للأستاذ هيكل، فأرى أنه من الإنصاف، أن يخصص له جزء باسمه في هذا المتحف، لتعرض به كل هذه الوثائق.إن هيكل جزء لا يتجزأ من ثورة يوليو 1952،وواحداً من أهم رجال التاريخ، فقد وثق، في كتاباته، الفترة التي سبقت ثورة يوليو، وحلل الأوضاع، في مصر، قبل قيامها. واعتقد أنه من الممكن البدء، فوراً، في ذلك، خاصة وأن متحف الثورة لم يفتتح بعد في مكانه، الذي كان مركزاً لمجلس قيادة الثورة، على ضفاف النيل العظيم. ويقع العبأ الأكبر، هنا، على وزارة الثقافة، في أهمية الإسراع بتشكيل لجنة لاستلام تلك الوثائق. ولا يساورني أدنى شك، في أن أسرة الأستاذ هيكل سترحب بتلك المبادرة، مادامت تحفظ له حقه، بتخصيص جزءاً من هذا المتحف، تكريماً لإسهاماته فيه. ولا يجب أن يقتصر هذا الجزء من المتحف عل كل ما كتبه هيكل فحسب، بل يجب أن يمتد ليتناول كل ما كتب عنه داخل مصر ... وخارجها ... حتى وإن كان نقداً له. وأعتقد أن هناك الكثير منه،من أعداء مصر،أيام حرب 1956، والتي تعد،من ناحيتنا، شهادة تكريم له، ولدوره الوطني. وهناك فترة، قد يكون، من الصعب متابعتها والكتابة عنها، وهي دوره بعد قيام ثورة يناير 2011، والتي أرى أنه كان دوراً كبيراً، أرجو أن يسمح القائمون على تلك المرحلة، بنشره وإضافته إلى تاريخه العظيم، والمشرف، والذي أعرف عنه بعض القليل. لقد تعرض الأستاذ هيكل إلى العديد من الحملات الإعلامية المضادة ... إلا أنني أرى في تلك الحملات إضافة له. لقد تعلمنا منه ألا ننساق في الرد على تلك النوعية من الحملات، فلم نسمع، يوماً، عند دخوله في مهاترات إعلامية مع أي طرف كان ... فقد كان يرى أن شموخه أكبر من أن يتأثر برأي هنا، أو كلمة هناك ... خاصة أنه كان يمتلك، دائماً، أوراقه ووثائقه، التي كانت خير سند في عرض أفكاره، وآراءه، وتحليلاته ... لذا ظهر كل من حاول انتقاده، بمظهر الضعيف، الذي لم يرتق إلى مستوى، ومكانة الأستاذ. وقد كان ذلك واحداً من أهم الدروس، التي قدمها الأستاذ هيكل، لكل تلاميذه، على مر الأجيال، وهم كثير. فمن العجب أن ترى تلاميذ الأستاذ هيكل من مختلف الأجيال والأعمار؛ فمنهم من زامله في الصحف المختلفة، ومنهم من تعلم من مدرسته الواقعية، من خلال متابعته ومقالاته. لقد ظل الأستاذ هيكل، وسيظل، مدرسة عظيمة لكل الكتاب في مصر، والعالم العربي. في النهاية ... أشهد أن الأستاذ هيكل ظاهرة فريدة وهامة في تاريخ مصر الحديث، لم يصل إليها كاتب مثله ... على المستويين المصري، والعربي ... ويكفي أحاديثه مع مختلف قادة ورؤساء العالم العربي والإسلامي. فالقيمة الكبيرة لهذا الرجل لم تكن له في داخل مصر فقط، وإنما في العالم كله. وسينظر التاريخ طويلاً إلى عظمة هذا الرجل ... وقدراته ... وعطاءه لبلده ... وعلاقاته بالعديد من الدول، والتي وظفها، دائماً، لمصلحة مصر، وأمته العربية. إن برقيات العزاء، وأخباره المتداولة في كل وسائل الإعلام العالمية، خير دليل على قيمة هذا الرجل ثقافياً ... وعلمياً ... ومهنياً في مجال الإعلام. ويجب أن تهتم الدولة المصرية بتكريمه بالصورة التي تليق بشخص مثله ... أفنى عمره في تقديم الكثير لبلاده ... وأعطى مصر الاحترام ... والتقدير. Email: sfarag.media@outlook.com |