|
تمر في حياتنا لحظات، أو أحداث، من الصعب ألا نتذكرها من وقت لآخر ... خاصة لو كانت أحداثاً غير عادية ... أو مهمة غير روتينية، تخرج عن صميم عملك ... وخاصة إن كانت من نوع الأحداث التي لا تتكرر في العمرسوى مرة واحدة. كان من الصعب تناول هذا الحدث، أو الكتابة عنه، إلا بعد انقضاء مرحلته، وتغير الوجوه تماماً ... فأذنت لنفسي بالكتابه عنه ونشره، باعتباره من أصعب المهام التي نفذتها في حياتي. أعود بالذاكرة إلى أواخر السبعينيات، عندمادارات اشتباكات على الحدود المصرية-الليبية، والتي سميت "حرب الأيام الأربعة"، وتحركت عناصر من الجيش المصري داخل الأراضي الليبية، بأمر من الرئيس السادات، رداً على قيام القذافي بإطلاق المدفعية على قواتنا هناك. وتوقف القتال، وتوترت العلاقات بين مصر وليبيا، حتى وفاة السادات، إلى أن تم الصلح بين البلدين في القمة العربية بالمغرب عام 1989. بعد عودة الرئيس مبارك من تلك القمة، وإتمام الصلح مع العقيد القذافي، تلقيت مكالمة في تمام السابعة من مساء ذلك اليوم من السيد الفريق يوسف صبري أبو طالب، وزير الدفاع المصري، وكنت،آنذاك، قائداً لقطاع السلوم العسكري، المسيطر على الحدود المصرية-الليبية. وأبلغني السيد وزير الدفاع، رحمة الله عليه، بورود معلومات مؤكدة بأن أكثر من 70 عربة محملة بوفود ليبية قد بدأت بالتجمع في مدينة مساعد الحدودية، لتلتقي بالعقيد القذافي في صباح اليوم التالي، الذي ينوي التحرك برفقتهم ليعبر بوابة الحدود، متجهاً إلى مرسى مطروح، ومنها إلى القاهرة براً. وأبلغني وزير الدفاع بأنني مكلف، من رئيس الجمهورية، بعدم السماح للعقيد القذافي، والحشود المرافقة له، من تخطي منطقة السلوم بأي حال، مع التأكيد على عدم إحداث مشاكل مع العقيد القذافي والوفود المرافقة له، إذ سيصعب تأمين تحركه في القاهرة. ولم ينتظر وزير الدفاع أي رد، وأنهى المكالمة عند ذلك. والحقيقة، أنني جلست مذهولاً أمام هذه المهمة. فمنعت أية مكالمات، وجلست في الشرفة المطلة على خليج السلوم، من فوق الهضبة الرائعة ... ذلك المنظر الخلاب الذي دعى الفنان العالمي عمر الشريف إلى التفكير في إنشاء أكبر كازينو في المنطقة ... وسرحت ببصري طويلاً في مياه البحر المتوسط بألوانها الجميلة الزاهية. فقد أدركت، من أول وهلة، أنني سأتعامل في هذا الموقف مع "شخصية" العقيد القذافي، والتي أعتقد أنني أفهمها جيدأ، بعد أربعة سنوات في ذلك الموقع، لم نكن نشاهد سوى قنوات التليفزيون الليبية، لتعذر وصول الإرسال المصري إلى منطقة السلوم. وبدأت وضع خطتي "السيكولوجية"، وليست العسكرية، لتنفيذ المهمة المكلف بها من القيادة المصرية في القاهرة. وفي غضون ساعة، كانت الخطة قد اختمرت تماماً في ذهني، وبدأت، على الفور، في التنفيذ. فظل الجميع يعمل من الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم، حتى التاسعة من صباح اليوم التالي، عندما بدأ القذافي في عبور البوابة الليبية، في أتوبيس سياحي كبير، ومن خلفه سبعون عربة ترفع الأعلام الليبية الخضراء، في مشهد همجي، غير مسيطر عليه. وعند البوابة المصرية، وقف نائبي الجنرال المصري، منتظراً للسيد العقيد، ثم صعد إلى الأتوبيس عند وصوله، وطلب من السيد العقيد التكرم بالنزول، لركوب عربة الاستعراض المكشوفة، منفرداً، لتحية القوات المصرية. ونزل العقيد القذافي، وركب العربة المكشوفة، يتقدمه صف دراجات بخارية من الشرطة العسكرية، جمعتها من كل القطاع، ويسير على جانبيه العربات المدرعةمن كافة الأنواع. والحقيقة أن رؤية هذا الموكب القتالي من القوات المصرية، قد أذهل العقيد القذافي. وكانت الأوامر أن يركب هذه العربة بمفرده، وتحرك الموكب إلى مكتبي لمسافة ستة كيلومترات، وعلى الجانبين كان هناك أكثر من ألفين جندي مصري ... يحييون القائد الليبي ... الزعيم ... رافعين أوراقاً بيضاء، دهنت، ليلاً، باللون الأخضر، نظراً لعدم وجود أعلاماً ليبية لدينا. وتحرك الركب، والعقيد لازال في ذهوله، ووصل مكتبي، ليجد حرس شرف قوامه 300 جندي مصري، ورغم أن التقاليد والأعراف العسكرية تقضي بألا يزيد عن 101 فرد، إلا أنني ضربت بهذه التقاليد عرض الحائط، بل لقد تركت العقيد يستعرض حرس الشرف منفرداً، دون أن أصاحبه في ذلك. ودخلنا إلى مكتبي، ومعنا قادة القطاع، للترحيب بالعقيد. وركزت على التأكيد على سعادتنا باستقبال رمز جمال عبد الناصر، الذي قال للقذافي يوماً أنه يذكره بشبابه. انتقلنا بعد ذلك إلى الميس، وقال لي أنه يستعجل التحرك للوصول إلى القاهرة، فقلت له أن "العيش والملح"، في مصر، أهم من أي شئ ... وتناولنا الإفطار، وكان ذلك لكسب الوقت. وبعد أن انتهينا، تحركنا إلى إحدى القاعات، لعرض أحد المشروعات التدريبية ... كان العرض مصحوباً بالخرائط، واستفضت في الشرح عليها لمدة ساعة كاملة ... كنت أشرح وأنا على يقين بأنه لم يعي كلمة واحدة. طلب بعدها الخروج للتحرك إلى القاهرة، فما أن خرج من القاعة، إلا ووجد منصة، يصطف أمامها ثلاثة آلاف ضابط، فقلت له أن الضباط المصريين منتظرين سماع كلمة منه. وحيث أنني أعلم شهيته للكلام، فقد استجاب، فوراً للفكرة، وجلس على المنصة، منفرداً، وأمامه الثلاثة آلاف ضابط، يحدثهم عن ليبيا، وعن القومية العربية. وبانتهاء كلمته، انهالت عليه الأسئلة، المعدة سلفاً، عن ذكرياته مع عبد الناصر، وعن الكتاب الأخضر، وغيرها من الموضوعات. واستغرق هذا اللقاء ثلاثة ساعات أخرى، أتحدى أن يكون هناك من فهم كلمة واحدة مما قال! قام، بعدها، للتحرك، فوجد خيمة بدوية مقامة، كنت قد استأجرتها من أحد القبائل بالمنطقة، فقلت له أنه من غير المعقول أن يغادر قبل تناول الغذاء مع ضباط الجيش المصري، فدخل إلى الخيمة حيث الوجبات معدة في أكياس بلاستيكية أمام كل ضابط، نظراً لقلة الموارد المتاحة لنا هناك. بعد أن فرغنا من الغذاء، استدار للخلف ليبدأ التحرك، فوجد أمامه خمسة عشر ألف جندي، منتظرين اللقاء، كنت قد جمعتهم، ضباطاً وجنوداً، في ذلك اليوم، من كل القطاعات. وسال لعاب القذافي، الذي لم يلتق، يوماً، بمثل هذا الجمع ... وتكرر ما حدث في لقاء الضباط الأول، وبرزت أسئلة أخرى، معدة لهذا الغرض. عند هذه اللحظة، كانت الساعة الرابعة عصراً، ووصل، أخيراً، المنقذ ... الدكتور أسامة الباز ... وصل على طائرة قادماً من القاهرة، ليقنعه باستحالة تحركة للقاهرة؛ فالطريق طويل، وسيداهمه الظلام. وعرض عليه المبيت في السلوم، فآثر العودة إلى ليبيا، مصحوباً بعرباته، ووفوده. وفي اليوم التالي، أرسل لي تريلا كبيرة، محملة بخيمة بدوية رائعة. وعاد الدكتور أسامة الباز إلى القاهرة، وأنا أتوقع محاكمتي في اليوم التالي على التجاوزات التي ارتكبتها، إلا أنه جاءتني مكالمة الوزير يوسف صبري، والفريق صفي الدين أبو شناف، لتثني على حسن تنفيذ المهمة، المكلف بها، على أحسن ما يرام. واليوم، عندما أتذكر هذا الحدث، يتأكد لي أن دراسة نفسية وسيكولوجية الطرف الآخر، هي مفتاح نجاح أي تخطيط. Email: sfarag.media@outlook.com |