العودة إلى الفهرس الرئيسي
لتحميل الوثيقة في صورة PDF
من المقــال
فرض احترامه على الجميع، بفضل ذكائه وصدقه، اتبع منهجا واضحا من المصداقية فى طرح أى موضوع، على رئيس الجمهورية. كّون صداقات وطيدة مع معظم رؤساء وملوك الدول العربية، ورجال السلطة الفلسطينية، وأصحاب القرار فى إسرائيل.
|
شخصيات فى حياتى (3).. اللواء: عمر سليمان
لواء د. سمير فرج
|
6 ديسمبر 2018
|
تقابلنا للمرة الأولى ونحن طلبة فى كلية أركان حرب، بعد أن اجتزنا اختبار
المسابقة من بين 1500 ضابط، قبِل منهم 165 ضابطاً، فقط. كان عُمر سليمان،
آنذاك، برتبة العقيد، وكنت أنا برتبة الرائد، واستمرت الدراسة لمدة عام
ونصف العام، كان العقيد عُمر سليمان، خلالها مثالاً، للانضباط، والهدوء،
متواضعا جداً، قليل الكلام، شديد الذكاء، وهى نفس الصفات التى لم يفقد أى
منها على مدى السنين، ومع التدرج فى المناصب الوظيفية.
تم إعلان تخرجنا مبكرا عن موعده، بسبب اقتراب حرب أكتوبر 73، وكمكافأة لى
على تفوقي، وتقدم مركزي، فقد تم توزيعى على هيئة عمليات الحرب، كما تم
توزيع عُمر سليمان للانضمام إلى صفوف المقاتلين فى ميدان الحرب. بعد
انتصارنا العظيم فى الحرب ، سافرت فى بعثة إلى كلية كمبرلى الملكية
بإنجلترا، كطالب أولاً، ثم كمدرس، لمدة عام، بكلية القادة والأركان. قبل أن
أعود إلى وطني، وأتولى دورى كقائد كتيبة فى اللواء مشاة، الذى يقوده العميد
عُمر سليمان، آنذاك، وهكذا اجتمعت به، مرة أخرى.
كان لواء المشاة ضمن القوات المكلفة بالدفاع عن سيناء، وفقا لبنود اتفاقية
السلام، مما أتاح لنا فرصة العمل معاً لمدة 24 ساعة يومياً، لمدة عام ونصف
العام، لا نفترق خلالها إلا مرة واحدة فى الشهر للإجازة. كانت تلك الفترة
كافية لاقترب أكثر وأكثر من ذلك القائد الحاسم، ذى الشخصية القوية،
المتواضع النفس، عالى الدرجات فى علمه، وخبرته الميدانية، التى اكتسبها فى
أثناء حرب أكتوبر، خلال وجوده ضمن صفوف الجيش الثانى الميداني، ولم يبخل
بنقلها إلينا.
أثرانى العميد عُمر سليمان بمواقفه الواضحة، ودفاعه عن الحق، وله فى عنقى
جميل، لم أنسه يوماً، عندما جاءتنى فرصة للسفر، فى بعثة، إلى الولايات
المتحدة الأمريكية، للحصول على دبلوم فى إدارة الأعمال، وهو ما يستلزم
موافقته، أولاً، بصفته قائدى المباشر، فلم يتردد فى الموافقة. لكن جاءت
المفاجأة، برفض قائد الفرقة سفري، معللاً أسباب رفضه بأننى قد حظيت بفرصة
سابقة للسفر إلى الخارج، ويجب إفساح المجال لضباط آخرين. ونظراً لدراية،
وإدراك، العميد عُمر سليمان، بأننى لم أحظ بتلك الفرصة بالترقية، أو
الأقدمية، أو التزكية، وإنما حصلت عليها بمجهودى الشخصي، بعد اجتيازي،
بتفوق، للاختبارات، التى تقدم إليها العشرات، غيري، من الضباط. فقد اجتمع
مع قائد الفرقة، لمدة ساعة تقريباً، لإقناعه بأحقيتى فى تلك الفرصة، ترسيخاً
لمبدأ إثابة المجتهدين، ولضرورة تسليح الجيل الجديد بالعلم الحديث، الذى
حرمتنا منه الحروب مع إسرائيل، وانتهى الاجتماع باقتناع قائد الفرقة،
وموافقته على سفري. وكتب العميد عُمر سليمان تقريره السنوي، ليكون شهادة فخر
واعتزاز فى ملف خدمتي، قبل أن نفترق، مرة أخرى، ولكن علاقتنا صارت أقوى مما
سبق.
تدرج اللواء عُمر سليمان فى مناصب عديدة، من قائد فرقة، إلى قائد المنطقة
المركزية فى القاهرة، والذى يعادل قائد جيش، وأصبح اسمه من ألمع وأبرز
الاسماء فى القوات المسلحة، مما أهله للانضمام إلى المخابرات الحربية. أذكر
يومها أننى كنت فى إجازة بالقاهرة، فطلبنى للقاء بمكتبه، أمضينا فيه ثلاث
ساعات، وفى مزيج من التواضع والثقة بالنفس، طلب أن أوضح له بعض تفاصيل
إدارة المخابرات الحربية، والتى كنت قد قضيت بها سنين، كمدير لمكتب رئيسها.
بقي، عُمر سليمان، بالمخابرات الحربية، حتى تولى رئاستها، فى فترة عصيبة من
تاريخ مصر والمنطقة، وهى حرب الخليج؛ فنجح فى أن يكون لديه، فى غرفة
العمليات فى مصر، ذات المعلومات الموجودة فى حفر الباطن، مقر قيادة التحالف
الأمريكية. حتى إن الرئيس الأسبق، حسنى مبارك، كان يخرج من مكتبه، ويذهب
إلى «غرفة عمليات عُمر سليمان» ليطلع على الموقف كاملاً على الجبهة فى حرب
الخليج.
فور انتهاء الحرب، وتحرير الكويت، عُين اللواء عُمر سليمان، رئيساً للمخابرات
العامة المصرية، وانتقل إلى مرحلة جديدة من حياته، لمدة 20عاماً، تسلم فيها
عدة ملفات شائكة، منها؛ القضية الفلسطينية، والعلاقات مع إسرائيل، وملف
السودان، وملف دول الخليج العربي، وملف ليبيا، وملف دول حوض نهر النيل.
وتولى العديد من المهام الصعبة، مثل الاتفاق مع دول حلف الناتو على التدخل
للقضاء على القراصنة الصوماليين، الذين هددوا باب المندب، مما كان له تأثير
سلبى على مصر. ونجح فى مهمته، بمساعدة القوات الأمريكية والفرنسية
المتمركزة فى جيبوتي، بالتدخل العسكري، والقضاء على هذه العناصر، وعادت
الملاحة إلى طبيعتها فى قناة السويس، فاستحق أن يكون، هو والمشير طنطاوي،
ذراعى الرئيس الأسبق، وعينيه اللتين يرى بهما.
فرض احترامه على الجميع، بفضل ذكائه وصدقه، اتبع منهجا واضحا من المصداقية
فى طرح أى موضوع، على رئيس الجمهورية. كّون صداقات وطيدة مع معظم رؤساء
وملوك الدول العربية، ورجال السلطة الفلسطينية، وأصحاب القرار فى إسرائيل.
وأصبحت المخابرات العامة، فى عهده، ذات مكانة متميزة بين نظيراتها فى الدول
الأخرى، وكون علاقات متميزة مع صانعى القرار بالولايات المتحدة الأمريكية،
والدول الأوروبية، وفى العمق الإفريقي، وأحدث تطورا هائلا فى منظومة
المخابرات العامة المصرية، خاصة فى مجال التقنيات العلمية الحديثة.
على المستوى الإنساني، آثر اللواء عُمر سليمان، أن تبتعد حياته الأسرية عن
الأضواء، وعن مراكز السلطة. أذكر أننى حضرت حفل زفاف إحدى بناته، فلم أر من
كبار رجال الدولة، سوى أقرب الأصدقاء فقط، فكان المشير طنطاوي، ووزير آخر،
ومن رجال القوات المسلحة، لم يدع إلا اللواء على حفظى وأنا. وظل طوال الحفل
حاملاً حفيدته الأولى بين ذراعيه، حتى إن زوجتى تعجبت من فرط بساطته وتواضعه.
وكان اخر لقاء جمعنى به فى شهر أبريل 2012، عندما زرته فى مستشفى وادى
النيل، واقترحت عليه السفر فورا للعلاج؛ خاصةً أن زيارته العلاجية إلى
ألمانيا، لم يحالفها النجاح، فاقتنع بنصيحتي، وقرر السفر إلى الإمارات
اولاً، ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لقى وجه ربه. ولا صحة،
على الإطلاق، لما أشاعه البعض، حينها، من وفاة سيادته فى سوريا.
مهما تكلمت عن هذا الرجل، رحمه الله، فلن أوفيه ولو جزءا من حقه ... لقد
استحق ما لقبه به رجال المخابرات ... آخر الرجال المحترمين.
Email: sfarag.media@outlook.com
|