من المقــال وتدريجيا حدث انهيار فى الوجود المصرى فى إفريقيا، حتى جاءت المشاركة فى مؤتمر القمة الإفريقية، كأول زيارة خارجية يقوم بها الرئيس السيسى بعد توليه رئاسة الجمهورية. |
الدوائر القريبة للأمن القومى المصرى.. استعادة المكانة فى إفريقيا والبحرين الأحمر والأبيض المتوسط
ننتقل إلى دائرة البحر الأحمر، كواحدة من أهم الدوائر القريبة للأمن القومى المصري، والتى ستؤثر بشكل مباشر على أمن مصر، وسلامتها، واقتصادها فى الفترة المقبلة. فحتى وقت قريب، كنا فى حديثنا عن البحر الأحمر، نعرفه بكلمة «بحيرة عربية». فكل الدول المطلة على البحر الأحمر، مصر والسعودية والسودان واليمن وأريتريا وجيبوتى والصومال، أعضاء فى جامعة الدول العربية. وأتذكر خلال التخطيط لحرب أكتوبر 73، أن مصر أرادت توجيه ضربة قوية، وموجعة إلى إسرائيل، وهو ما دعا المخطط المصرى للتفكير فى إغلاق الملاحة فى منطقة باب المندب أمام السفن الإسرائيلية، أو السفن التى تحمل بضائع إلى إسرائيل عن طريق ميناء إيلات،فتحول الميناء إلى مدينة أشباح، بدءا من يوم 6 أكتوبر. وأتذكر عودة اللواء الجمسي، إلى القيادة العامة، بعد أولى جلسات «مباحثات الكيلو 101»، وكنا جميعا فى انتظاره لمعرفة ما حدث، فكان أول ما نطق به عند دخوله لمقابلة المشير أحمد إسماعيل، أن قال «يا فندم موضوع إيلات ده وجعهم أوى ... معظم مناقشاتهم على الترابيزة تدور حول فتح باب المندب. وكان الرد أمام معظم طلباتنا ... طيب افتحوا باب المندب»، وأضاف اللواء الجمسى «وإحنا بنركب العربيات، كانت آخر جملة قالها رئيس الوفد الإسرائيلى هارون ياريف، مدير المخابرات الإسرائيلية أوعى تنسى فتح الملاحة فى باب المندب». ويجب تأكيد أن إغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، تم بناء على خطة مصرية، بالغة الدقة، والسرية. حيث تم استطلاع الجزر المسيطرة على المضيق، وتم تحديد أماكن تمركز القطع البحرية المصرية التى ستغلق الملاحة، كما تم التنسيق مع الجانب اليمنى على أسلوب تقديم الخدمات اللوجستية لهذه القطع البحرية، دون إطلاع الجانب اليمنى على طبيعة العملية، أو المهمة، وإدراجها تحت اسم شركات مدنية، تجارية. فتحقق، لهذه العملية أكبر قدر من السرية، ولم يعلم بها الجانب الإسرائيلى إلا يوم 6 أكتوبر، الساعة 12 ظهرا، عندما أعلنت مصر إغلاق الملاحة فى باب المندب أمام السفن الإسرائيلية. وبعد حرب أكتوبر 73، حاولت إسرائيل الوجود فى هذه الجزر بأى صورة من الصور، أو حتى بوضع نقط للمراقبة، إلا أنها لم تنجح بفضل يقظة المخابرات المصرية. وظلت هذه المنطقة هادئة، حتى تدهور الوضع الأمنى فى الصومال؛ التى عجزت عن السيطرة على الفئات المتناحرة. فقامت عناصر مسلحة باعتراض السفن الدولية عند باب المندب، وظهر، لأول مرة، فى هذه المنطقة، أسلوب القرصنة البحرية ضد هذه السفن. وعلى الفور تحركت مصر، ومعها بعض الدول الأوروبية، وأمريكا وتم تشكيل قوة بحرية Task Force للتصدى لهذه القرصنة، بالاعتماد على القواعد البحرية، الفرنسية والأمريكية، فى جيبوتي. وخلال بضعة أشهر، تم القضاء على القراصنة الصوماليين، وعاد الأمن إلى منطقة باب المندب، وإن ظلت المراقبة مستمرة هناك، لضمان عدم عودتهم. لكن تدهور الوضع حاليا فى اليمن، وسيطرة الحوثيين وأنصار على عبد الله صالح على اليمن الشمالية، وعدن، أعاد التهديد،مجدداً، لباب المندب،على الرغم من عدم تهورهم فى محاولة التعرض للملاحة فيه، خشية انقلاب المجتمع الدولى عليهم. لقد قصدت من هذا السرد المفصل توضيح أهمية هذا المضيق للملاحة العالمية عامة، ولمصر وقناة السويس خاصة، التى تمثل ثلث الدخل القومى المصري.من ذلك العرض تبرز أهمية تأمين هذه الدائرة المهمة من دوائر الأمن القومى المصري، وأرى أن يرتكز التعامل فيها على محورين أساسيين؛ أولاً: عربيا، من خلال اتفاقية إقليمية لتأمين المنطقة بالكامل تضم جميع الدول المطلة على البحر الأحمر، مصر والسعودية والسودان واليمن وأريتريا وجيبوتى والصومال، فى إطار اتفاقيات عديدة؛ سواء المعنية بتقوية العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول، خاصة إريتريا وجيبوتى والصومال، أوالمعنية بالعلاقات السياسية، والمجالات الثقافية. وأخيراً يتوج هذا كله بالتعاون العسكري، دونما خوض فى تفاصيله، فهذا مجاله الخطط العملياتية المشتركة بين هذه الدول، والتدريب المشترك، والتعاون المعلوماتي. مع الوجود الدائم والمستمر فى الجزر الواقعة على الممر الملاحي، ليس بالضرورة بالقوات، ولكن بالبدائل المتاحة،لتكون فيها الأعين المصرية تراقب، وتحذر من أى وجود أجنبي. ثانيا: دوليا، من خلال اشتراك مصر مع القوى العالمية التى يمكن أن تتأثر بأى اضطرابات فى مضيق باب المندب، والملاحة فى قناة السويس. وذلك بالاستفادة من الخبرة المكتسبة من التجمع القتالى الذى تم من قبل، للقضاء على تهديد القراصنة الصوماليين، من خلال التعاون بين مصر وأمريكا، والدول الأوروبية، لإعداد خطة تأمين يتم فيها تحديد حجم القوات المشاركة، وأسلوب التعاون، وشكل القيادة العسكرية لهذه القوات، إضافة إلى تنظيم العمليات اللوجستية لتحقيق التأمين الإدارى والطبى للقوات المشاركة. ويفضل، أن تعمل الدبلوماسية المشتركة لهذه الدول على تحقيق ذلك فى إطار قرار من الأمم المتحدة، لإضفاء الشرعية الدولية على عمل هذه القوات. إن دائرة الأمن القومى فى البحر الأحمر من أهم الدوائر، لدورها فى تأمين قناة السويس كأهم مجرى مائى فى العالم، ليس لمصر فقط، وإنما لحركة التجارة العالمية. وأخيراً، دائرة البحر الأبيض المتوسط، الذى كان يُعرف، فى الماضي، بأنه «بحيرة عربية أوروبية»، محدودة الصراعات. فالبحر الأبيض المتوسط يمثل شواطئ شمالية للدول العربية وإسرائيل، وشواطئ جنوبية للدول الأوروبية المطلة عليه، مع منفذ لتركيا من البحر الأسود للعالم الخارجي، ويتحكم فيه من الغرب مضيق جبل طارق. ظلت الأمور هادئة فى البحر المتوسط، إلا من المناوشات بين تركيا واليونان حول قبرص، أو خلال فترات الحروب بين مصر وإسرائيل، واحتفظ البحر المتوسط بسمته الآمنة كممر للتجارة العالمية، وخاصة نقل البترول من دول الخليج، مرورا بقناة السويس، إلى دول أوروبا، ومن خلال مضيق جبل طارق إلى أمريكا، ودول أوروبا الشمالية. وظل البحر المتوسط بحيرة هادئة، لا يعكر صفوه أى نزاعات، رغم وجود العديد من الدول المطلة عليه. وكانت هذه الدائرة، بالنسبة لمصر، من أكثر الدوائر هدوءا، خاصة بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وفى ظل تمتع مصر بعلاقات طيبة مع جيرانها، المطلة على البحر المتوسط،بما فيها تركيا، قبل وصول أردوجان للحكم. وفجأة، تغيرت الأوضاع تماما مع بدء ظهور دراسات جيولوجية عن المنطقة، تنبئ بوجود بترول، وغاز طبيعى فى أعماق البحر المتوسط، فتسابقت الشركات العالمية لتوقيع اتفاقيات مع دول المنطقة، لبدء الحفر لاكتشاف الغاز الطبيعى فى المنطقة. وتؤكد الدراسات أن المناطق المتوقع وجود الغاز الطبيعى فيها بكميات كبيرة جداً تقع قبالة السواحل المصرية، وتحديداً شمال الدلتا، وفى جزء من السواحل الغربية لإسرائيل، وتمتد هذه المناطق حتى اليونان وجزيرة قبرص. لذا بدأ استنفار هذه الدول مبكراً،وانضمت إليهما تركيا، لسيطرتها على جزء من قبرص، والمعروفة بقبرص التركية. فقام الرئيس السيسى بثلاث زيارات، متعاقبة، لكل من قبرص واليونان، حيث تم ترسيم الحدود البحرية معهما. وسبق هذا ترسيم بين مصر وإسرائيل، عندما بدأت إسرائيل أول اكتشافاتها فى حقلى تمار وليفياثان، وذلك لمنع ولتفادى أى نزاعات مستقبلية. وحديثاً ظهرت وثيقة أمريكية، تؤكد أن البحر المتوسط «يطفو فوق بحيرة من الغاز الطبيعي، فى مناطق مصر وشمال الدلتا، وجزء من إسرائيل، وقبرص، واليونان». ولقد حددت هذه الوثيقة، أنه بحلول عام 2020، ستصبح مصر من أكبر الدول المنتجة للغاز الطبيعي، من حقولها الجديدة، وأن هذا الإنتاج سيحقق لمصر اكتفاء ذاتيا فى مجالات الصناعة، والاستهلاك المنزلي، علاوة على فائض للتصدير. وأضافت الوثيقة الأمريكية، أن هذه الوفرة فى الإنتاج ستمكن مصر من مد خط لتصدير الغاز إلى أوروبا، عبر قبرص واليونان، وستشاركها الدولتان فى استخدام الخط نفسه لتصدير فائض إنتاجهما. كما أن نوعية الغاز المكتشف، حاليا، فى مصر من أجود أنواع الغاز الطبيعي، وأن تصديره، مستقبلا، إلى أوروبا، سيعد الأقل تكلفة، مقارنة بدول أخري، لما يحققه التصدير عبر أنابيب الغاز من وفر كبير، بدلا من تحويله إلى (LNG)، أى سائل، ثم إعادة تحويله إلى غاز، فى دولة الاستقبال. وتؤكد الوثيقة الأمريكية أن هذه الاكتشافات هى ما دعت الرئيس السيسى إلى توقيع اتفاقيات تعاون مع قبرص واليونان، وانتهت، أخيرا، بمناورة عسكرية، تأكيداً للتفاهم، وعمق التعاون بين الدول الثلاث. أما على جانب مصر، فقد أكدت الوثيقة أن الرئيس المصرى دعم قدرات مصر الدفاعية، بعيدا عن المظلة الأمريكية، من فرنسا، وألمانيا، وروسيا، والصين، بهدف حماية استثمارات مصر المستقبلية فى منطقة البحر المتوسط. وهو إجراء تلتزم به جميع الدول؛ إذ تؤمن اقتصادها ومواردها، بقوة عسكرية على أعلى درجات الكفاءة والاحتراف. وأتوقع أن مصر ستواجه، خلال المرحلة المقبلة، بعض العداءات الدولية، وأخص بالذكر تركيا، التى ستحاول استغلال الجزء التركى من جزيرة قبرص من ناحية ترسيم الحدود البحرية فى المنطقة، التى قد تتداخل مع حدود قبرص اليونانية. وهو ما يجب أن يعالج فى إطار دبلوماسى بين الدولتين، تفادياً للتصعيد، الذى قد يصل لمواجهة عسكرية بين تركيا واليونان،مثلما حدث من قبل. وبهذا يتضح أن دائرة البحر الأبيض المتوسط، أصبحت، حاليا، أهم الدوائر التى تؤثر فى مجريات الأمن القومى المصري، وهو ما يلزم مصر بضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنشيط علاقاتها الدبلوماسية، والاقتصادية، والثقافية مع دول البحر المتوسط. وعلى الرغم من أن سياسة مصر الخارجية لا تميل إلى الدخول فى تحالفات، فإننا نوصى بزيادة ارتباط مصر بدول المنطقة عن طريق الاتفاقات، التى لا ترقى لمستوى الأحلاف،للحفاظ على الثوابت السياسية المصرية، القائمة على علاقات متوازنة مع كل الاتجاهات، كل فى إطار خدمة المصلحة العليا والقومية للبلاد ... التى يديرها حاليا، بكل براعة، الرئيس عبد الفتاح السيسي. Email: sfarag.media@outlook.com |