العودة إلى الفهرس الرئيسي

لتحميل الوثيقة في صورة PDF

من المقــال

.. حتى إن بعض المراقبين والمحللين خرج إلى أن مَن وضعوا خطة الهجوم المضاد الأوكرانى هم القادة والعسكريون الأمريكيون، وأن القوات الأوكرانية هى التى نفذت الخطة.

نجاح الهجوم المضاد الأوكرانى.. هل هو بداية لتغير الموقف العسكرى؟
 

لواء د. سمير فرج

 22 سبتمبر 2022


تساءل الجميع فى الفترة السابقة عن مفاجأة الحرب الروسية الأوكرانية مؤخرًا بعد نجاح القوات الأوكرانية فى شن الهجوم المضاد على القوات الروسية فى شرق أوكرانيا، والاستيلاء على مدينة أزيوم وحوالى 5000 كيلومتر مربع داخل المنطقة التى استولت عليها القوات الروسية من قبل داخل الأراضى الأوكرانية.

كانت القوات الروسية التى بدأت الهجوم على أوكرانيا يوم 24 فبراير الماضى، قد نجحت خلال ستة أشهر فى الاستيلاء على 20% من الأراضى الأوكرانية فى الشرق، فى إقليم دونباس.. وفجأة مع دخول الشهر السابع من العمليات الروسية، قامت القوات الأوكرانية بهجوم مضاد ناجح ضد القوات الروسية فى دفاعاتها فى إقليم دونباس.

وهنا تساءل الجميع: كيف يحدث ذلك ضد القوة العسكرية الثانية عالميًا، وهى الجيش الروسى ضد القوات الأوكرانية التى تحتل المركز 22 فى التقييم العالمى؟!. وكان الرد الأول، أن الدعم العسكرى الذى تلقته أوكرانيا من الولايات المتحدة ودول حلف الناتو كان السبب الرئيسى، خاصة صواريخ هيمارس الأمريكية، التى وصل مداها إلى 70 - 80 كيلومترًا.

والحقيقة أن هذا الدعم العسكرى يأتى فى المرتبة الثالثة، لأن السبب الأول فى نجاح القوات الأوكرانية فى هزيمة القوات الروسية هو حجم وكمية المعلومات العسكرية التى قدمتها أجهزة الاستطلاع والاستخبارات الأمريكية ودول حلف الناتو، خاصةً تلك المعلومات الدقيقة التى وصلت من الأقمار الصناعية عن أوضاع القوات الروسية على الأرض، وحجم التجميع القتالى، وتمركز المدفعيات والاحتياطيات، ووسائل الدفاع الجوى، ونقاط القوة والضعف فى الدفاعات الروسية. كل هذه المعلومات كانت بداية إعداد خطة الهجوم المضاد الأوكرانى.

وطبقًا للفكر العسكرى، فإنه كلما كانت المعلومات صحيحة ودقيقة؛ كان القرار الهجومى، أو الخطة، سليمة وناجحة.

.. حتى إن بعض المراقبين والمحللين خرج إلى أن مَن وضعوا خطة الهجوم المضاد الأوكرانى هم القادة والعسكريون الأمريكيون، وأن القوات الأوكرانية هى التى نفذت الخطة. ذلك كان السبب الأول فى نجاح الهجوم المضاد.. أما السبب الثانى، فيعتقد البعض أن قوات النخبة من الجيش الروسى هى التى قامت بالهجوم بداية يوم 24 فبراير، وبعد تحقيق أهدافها والاستيلاء على إقليم دونباس، قامت القيادة الروسية بسحب قوات النخبة من الخطوط الأمامية وأعادتها للخلف لرفع كفاءتها القتالية، وهذا ما يحدث دائمًا فى كل الحروب، حتى لا تصاب القوات بما نسميه نحن «مرض الخنادق». ومع استمرار وجود القوات المقاتلة فى الخنادق فترة طويلة، وبالتالى تقل كفاءتها القتالية؛ فإن القوات الروسية المدافعة فى هذه الاتجاهات لم تكن من قوات النخبة الروسية.. ولذلك جاءت المعلومات الأمريكية بتحديد أماكن تواجد القوات الروسية ذات الكفاءة الأقل. وبالتالى هى أضعف الدفاعات الروسية.

أما السبب الثالث، فكان حجم ونوعية الأسلحة الجديدة التى وصلت للقوات الأوكرانية من الجيش الأمريكى وقوات حلف الشمال الأطلسى، خاصةً- كما ذكرت- «صواريخ الهيمارس» التى حققت للقوات الأوكرانية كثافة نيرانية كبيرة ساعدتها على تدمير الدفاعات الروسية.

والسبب الرابع، كانت الروح المعنوية للقوات الأوكرانية تهدف لاستعادة أرضها وترابها الذى فقدته، عكس القوات الروسية التى تحارب على أرض ليست أرضها ولا ترابها. وأعتقد أننا كمصريين نفهم ذلك تمامًا عندما حاربنا فى أكتوبر 73، فلقد كانت الروح المعنوية لنا عالية، لأن هدفنا كان استعادة أرضنا، بعكس قوات الجيش الإسرائيلى التى كانت تدافع على أرض ليست أرضها.. لذلك كان الدافع المعنوى لقواتنا عظيمًا، وهو نفس ما كان للقوات الأوكرانية وهى تنفذ هذا الهجوم المضاد.

وهنا يأتى السؤال الآخر: ماذا سيفعل بوتين أمام هذا النصر الأوكرانى، رغم محدوديته، إلا أنه انتصار على ثانى قوة عسكرية فى العالم.. بل أصبحت العسكرية الروسية فى مأزق أمام الجميع؟!.

لذلك من المتوقع أن يقوم بوتين بتوجيه ضربة قوية جديدة ضد القوات الأوكرانية فى منطقة دونباس أيضًا، ويكون الهدف منها ليس استعادة أرض جديدة، بل تدمير القوات الأوكرانية التى نجحت فى الهجوم المضاد، بغرض استعادة هيبة الجيش الروسى التى فقدها فى بداية الشهر السابع من العمليات.. وهنا نؤكد أن استراتيجية بوتين الجديدة فى الحرب الروسية لم تعد زيادة الاستيلاء على أراضٍ أوكرانية جديدة، بل إن الاستراتيجية الروسية الجديدة هى شن حرب الغاز.. حيث رفض بوتين أسعار الغاز التى وضعها الاتحاد الأوروبى، وقرر إيقاف تصدير الغاز إلى أوروبا عبر خط نورد استريم 1، الأمر الذى سيضع أوروبا فى موقف صعب فى الشتاء البارد القادم.

ويهدف بوتين إلى تفكيك دول الاتحاد الأوروبى، التى ما زالت تقف صامدة ضد روسيا.. ولكن عندما يأتى برد الشتاء، ويكون هناك نقص فى الغاز؛ سوف تثور شعوب هذه الدول ضد حكوماتها وتطلب الابتعاد عن تأييد أوكرانيا.

ولعل المظاهرات التى بدأت فى دولة التشيك وفرنسا هذا الأسبوع هى إنذار مبكر لهذه الحكومات قبل دخول الشتاء. وهناك من يرى احتمالات قيام بوتين بتوجيه ضربة نووية تكتيكية بقوة 10 كيلوجرامات، أو ضربة غازات حربية، الأمر الذى حذر منه الرئيس الأمريكى جو بايدن، الرئيس الروسى، والذى قال إن قيام روسيا بمثل هذا العمل ستنتج عنه عواقب وخيمة، وكرر كلامه إلى بوتين: «لا تفعل.. لا تفعل». ورد جو بايدن على سؤال من المذيع بشأن رد الولايات المتحدة إذا استخدمت روسيا سلاحًا كيماويًا أو نوويًا، فقال بايدن: «بالطبع لن أخبرك، ولكنهم سوف يصبحون منبوذين فى العالم أكثر من أى وقت مضى».

لذلك سوف تبرز الأيام القادمة ماذا سيحدث خلال الفترة القادمة، خاصةً فى ظل متغيرات كبيرة يشهدها العالم: انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى، وتجميد موقف المفاوضات النووية مع إيران، وإعادة انتخاب الرئيس الصينى لفترة رئاسية ثالثة، خاصةً فى مرحلة التوتر الحالية بين الصين وتايوان بعد زيارة نانسى بيلوسى رئيسة الكونجرس الأمريكى إلى تايوان.. ويأتى بعدها حاليًا دور الوسيط الأمريكى فى حل مشكلة الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، واستيلاء إسرائيل على المربع رقم 9 فى المياه الإقليمية اللبنانية، واستخراج الغاز من حقل كاريش، وهل سيوافق حزب الله على المقترح الأمريكى؟!.

عمومًا، كل هذه الأحداث التى تدور حاليًا فى المنطقة والعالم سوف تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الاستقرار والسلام، وليس فى المنطقة فقط ولكن فى العالم كله، الذى لا يأمل إلا أن تنال دول العالم الثالث حقها فى القمح، والذرة والزيت والأسمدة، والاستقرار والسلام.

على الرغم مما يثيره هذا العنوان من استفزاز شديد، فهو بلا ريب يتضمن حقائق تاريخية يصعب إنكارها. فقصة المحاولات المضنية التى قادها أعلام الفكر التنويرى فى العالم العربى لإيقاظه من سبات التخلف معروفة للكافة، وأغلبها إن لم يكن كلها قد باء فى الماضى بالإخفاق، بيد أن هذا الإخفاق لم يكن عائقا أمام محاولات مجددة يحدو بأصحابها التفاؤل والأمل فى اللحاق بركب الحضارة والمساهمة فيها بدور منتج بناء.

وكثيرًا ما يلجأ المرء عندما تستبد به الحيرة إلى عقد مقارنات بين الحالة العربية وحالات أخرى فى العالم مرت بذات الأزمة، رغبة منه فى تبين أوجه التشابه والاختلاف بينهما، عله يعثر على إجابة شافية لتساؤلاته، فالدراسات المقارنة تعين على تصور حلول ناجعة لإشكاليات مستعصية. فلا ينفك يتساءل: كيف تمكنت دول كبرى ذات تراث حضارى هائل، مثل الصين، من مواجهة مشكلة الصراع بين التراث والحداثة، وهى المشكلة التى أمسى العالم العربى محصورا فى متاهاتها، عاجزا عن الخروج منها؟.

فالصين مثلا مرت بأزمة مماثلة، ووقعت فى فخ السؤال المضلل: ما السبيل إلى التوفيق بين الكونفوشية والحداثة الغربية؟.. ظهرت فى الصين تيارات أصولية مناوئة للحداثة الغربية، وأخرى تدعو إلى هجر التراث والالتحام بالحضارة الأوروبية، كما ظهرت تيارات أخرى مسكونة بهاجس المصالحة بين التراث والحداثة الغربية على غرار الحالة العربية عبر التفكير فى إصلاح التراث أو تنقيته مما لم يعد متفقا مع العصر.

بيد أن الصراع قد انتهى بالصين إلى ابتكار نموذج خاص بها مكّنها من أن تصير قوة عظمى تشارك فى بناء الحضارة. ولم يعد ثمة مجال معرفى أو علمى إلا وقد قطعت فيه أشواطا كبيرة. ويلاحظ الباحثون أن ثمة سمتين بارزتين تميزان المجتمع الصينى مكنتا الصين من تحقيق طفرات هائلة فى المعرفة والتكنولوجيا هما: (النظام والتخطيط المحكم).. فكل شىء مدروس بعناية، ومسبوق بتخطيط دقيق صارم يمتنع تمامًا الخروج عنه.

ولعل ما شاهدناه من إجراءات صارمة فرضتها الحكومة على مواطنيها من التزام شديد بسلوك معين وغلق مدن بأكملها أثناء جائحة كورونا، وحشد طاقة علمائها، وتعبئة الموارد المادية والتكنولوجية اللازمة لهم لتصنيع لقاح ضد المرض، فضلا عن أولوية الاهتمام بالتعليم والبحث العلمى ما مكن الصين من أن تحتل المرتبة الثانية كقوة اقتصادية وسياسية عظمى لا يستهان بها.

لكننا إذا انتقلنا إلى الحالة العربية للبحث عن مكمن العلة التى حالت دون خروج العالم العربى من نفق التخلف وأبقته بعيدًا عن المساهمة بدور مشهود فى بناء الحضارة الحديثة، نعثر على أمثلة عديدة فى الواقع لقامات فكرية جاهدت بأفكارها وكتاباتها فى نشر التنوير، لكنها تعرضت لضرب من الاضطهاد والقمع، فلاذت بالصمت، وآثرت العمل بنصيحة فولتير حينما قال يائسا ذات مرة: «على المرء أن ينشغل بزراعة حديقته».

خذ مثلًا المحاولة التى قام بها طه حسين عندما أراد تنوير العقول وحثها على التفكير النقدى. إذ كانت رؤيته المنهجية تقوم على الشك من أجل الوصول إلى اليقين، والشك هو إعمال العقل النقدى فى الأفكار السائدة التى اكتست مع مرور الزمن بهالة كبيرة من التقديس تحول دون إخضاعها للعقل. وقد انتهى طه حسين إلى نتيجة مؤداها ضرورة تحكيم العقل بوصفه مقياسا أوحد للحقيقة، واستند مشروعه التنويرى إلى الدفاع عن العقلانية والعلمانية والحرية والديمقراطية.

وحينما واتته الفرصة للمشاركة فى السلطة، كان هاجسه الأول إصلاح العقل بالتعليم، بيد أن المؤسسات الدينية وقفت له بالمرصاد، ونسبت إليه تهمة الطعن فى الشخصيات الدينية، فتعرض بسببها للقمع والاضطهاد الفكرى، ولم يتمكن من إنجاز مشروعه التنويرى.. إذ ظل فكره محصورًا فى دائرة الإنتلجنسيا، ولم تتوفر له القوى الاجتماعية والاقتصادية اللازمة لجعل مشروعه مشروعا وطنيا عاما. وبعد ثورة يوليو، اصطدمت قناعاته بدور مصر المتفرد وموقعها المتوسطى بفكرة القومية العربية وما تحمله من أحلام أيديولوجية، فتلقى مشروعه الهزيمة تحت معاول الفكر الدوجمائى والأصولى.



Email: sfarag.media@outlook.com